ولد المسرح من رحم الدين فكان” المعبد “ اول ميدان للعروض التمثيلية التي كان يقدمها كهنة ورجال دين بحضور الجمهور ومشاركتهم احيانا.
لذا استعار المسرح في مرحلته التأسيسية الشكل الطقسي والمضمون الاخلاقي والطابع الاسطوري وهذا ما يفسر ارتباط المسرح بوشائج متينة مع مبادىء واخلاقيات غاية في السمو والمثالية تلامس او تقارب ان لم تتطابق كليا مع مثالية القيم في الاديان السماوية والتي اقرتها ودعت اليها الكتب المقدسة والشرائع السماوية.
يكشف لنا تاريخ المسرح انه تطور عن اعياد دينية اغريقية كانت تمارس فيها طقوس دينية تمجيدا للاله” احتفالات الديشرامبوس “ رغم ان بعض الابحاث والطروحات تشير الى ارتباطه بطقوس دينية بابلية وفرعونية لكن المؤكد تاريخيا ان الظاهرة المسرحية والدرامية الحقيقية قد اقترنت بالحضارة الاغريقية التي قدمت لنا الى جانب الفكر الفلسفي فن المسرح واسست ونظرت له ولقد سعى المسرح منذ نشوئه على يد الاغريق العظماء حتى هذا اليوم يسعى الى تحقيق مبدأ التطهير” الكثارسز “ الذي اكد عليه ارسطو غاية سامية ونبيلة يحققها التفاعل الحي والوجداني بين العرض والمتلقي حين يتحقق” التوحد “ بين المتلقي والعرض” البطل “ وحين يمارس المتلقي بفاعلية جانبا من انفعالاته الانسانية وعواطفه الوجدانية” الشفقة والخوف “ فيتخلص كما يرى ارسطو من شروره وادرانه ليحقق في النتيجة النهائية توازنا عاطفيا” سايكولوجيا “ يوازي ما يتحقق لدى المصلي وهو يمارس طقوس الصلاة بتوحده مع الخالق سبحانه وتعالى ورغم المتغيرات والتطورات التي طرأت على فن المسرح على مستوى الشكل والمضامين بتعاقب العصور والمراحل التاريخية الا انه لم يبتعد عن اهابه الاخلاقي في صراع البطل التراجيدي” الجليل “ المؤمن بقدره حينا والمناضل ضد قوى الطبيعة او قوى الشر والباطل حينا اخر.
وهكذا سار المسرح الى جانب الدين وانشغل في محاطاة” موضوعاته “ واخلاقياته الواجبة على المواطن المؤمن والصالح.
وحتى الكنيسة التي حاربت المسرح في اول الامر سرعان ما عادت لتتبناه وسيلة فاعلة في تقديم طروحاتها وقصصها الدينية التي تنطوي على موعظة اخلاقية فظهر المسرح الكنسي في القرون الوسطى وكانت تقدم فيه قصص الانبياء والسيد المسيح” ع “ وغيرها من القصص الدينية.
ثم سرعان ما غضبت الكنيسة ورهبانها على المسرح فطردته الى خارج اسوارها.
وقد تعرض الفن المسرحي فيما بعد الى التدني والنكوص ومر بفترات انحطاط وترد كان سببها الرئيس هو انحطاط الممتهنين به لاسيما الممثلين الذين اضحوا من السوقة والمارقين وحثالة الناس بعد ان كانوا من علية القوم ونخبهم في مراحل التأسيسية لاسيما عند الاغريق الذين اعطوا مكانة اعتبارية متقدمة للممثل الذي كان غالبا ما ينتسب الى اسرة نبيلة وعريقة ولا يسمح في حينها ان يكون الممثل من طبقة العبيد او حتى من عامة الناس. وبذلك ابتعد المسرح نسبيا عن طابعه الاخلاقي ورسالته” الفكرية “ لتقترن عروضه بـ” الفرجة “ السطحية بقصد التسلية والمتعة العابرة.
ومن هنا يكمن تحفظ معظم الشرقيين على فن المسرح انطلاقا من خلفية طبيعة المشتغلين به” نساء ورجال “ فضلا عن التحفظ المتطرف على فكرة” التشخيص “ التي يجدها بعضهم خرقا فاضحا لاصول الايمان والدين واساءة بالغة للدين نفسه ورموزه مع ملاحظة ان الادب العربي بعد الاسلام كان” يغازل “ الدراما والفن المسرحي على استحياء. وقد اثبتت دراسات وابحاث عديدة وجود نزعة مسرحية واضحة او نزعة درامية في الاقل في ادب المقامة وفي ادب الجاحظ” البخلاء “ التربيع والتدوير البيان والتبيين... الخ “ فضلا عن الملامح الدرامية الهائلة التي انطوى عليها شعر المتنبي العظيم.ان جوهر المسرح الحقيقي يتطابق مع جوهر الديانات السماوية بما فيها الدين الاسلامي الحنيف على الرغم مما يبدو من تقاطعات وتناقضات ظاهرية.
ان تاريخ الدراما والمسرح وتاريخ الادب المسرحي تحديدا وعبر جميع مراحله التاريخية ومن خلال النصوص المسرحية والدرامية المتوارثة يكشف لنا ان المسرح لم يدع يوما الى الرذيلة او امتهان الانسان ولذا فمن الغريب ان يتخذ المعنيون في الاسلام موقفا متطرفا من فن المسرح كما فعلت الكنيسة بادىء الامر. وهذا الاستغراب يتخذ لنفسه بعدا ثانيا حين نشير الى لجوء المؤسسة الدينية في مراحل لاحقة الى الشكل المسرحي ومظاهره التمثيلية وتقنياته في مظاهر العزاء” التشابيه “ وتمثيل واقعة الطف في الساحات العامة في المناسبات الدينية في اطار مسرحي واضح يقر بها كثير من ملامح التراجيديا الاغريقية وابطالها ومن نصوص دينية بابلية ذات طابع رثائي.
لقد كثرت الطروحات التي تباعد بين فلسفة المسرح وفلسفة الاسلام وشرائعه من منطلق ان المسرح ينطوي على صراع وان الاسلام دعا الى مجتمع مؤدلج وفق عقيدة لا تسمح بتناولها دراميا ومناقشتها ولكن اذا ما اتفقنا على ان فن المسرح يعتمد الانسان موضوعة ووسيلة وغاية فذلك يقارب الحالة التي يدعو لها الدين.
ان ديننا يقر ان النفس امارة بالسوء. وهذا وحده اقرار بالمبدأ الدرامي الاول في الدراما وجوهرها” الصراع“.
ان في داخل كل انسان نزوعا نحو الشر ونزوعا نحو الخير فالانسان لا يولد خيرا او شريرا وهذا ما تطرحه الدراما من خلال شخصياتها المركبة والمتحولة ومن خلال الصراعات الداخلية التي تتنازع ابطالها وهم يسعون الى تحقيق ارادتهم الانسانية.وفي ظل انفتاح” فكري “ واضح ووعي باهمية المسرح ودوره” الرسالي “ فقد برزت في الاونة الاخيرة دعوات لمسرح اسلامي، واذا كان هناك من يحاول ان يطرح مفهوما للمسرح الاسلامي ويروج له فعليه ان يكون موضوعيا في تحديد هذا المفهوم دون اطر ذاتية ضيقة.
ان المسرح الاسلامي كما نرى لا يعني بالضرورة طرح القصص المستقاة من التاريخ الاسلامي بل هو يعني المسرح الذي يدعو الى قيم الاسلام السمحة والانسانية اي ان المسرح الاسلامي هو المسرح الذي يتبنى فلسفة الاسلام وقيمه السمحاء سواء اعتمد قصص وموضوعات تاريخية او اجتماعية واقعية حديثة، وبذلك يتحدد هذا المفهوم بالمضمون” الاسلامي “ لا بالشكل الذي ينبغي ان يرتبط بضرورات فنية وجمالية.
وختاما، ان الفن ابداع وخلق، ولذا فهو اجتهاد متقدم قد يحد منه ان نضعه في حدود واشتراطات ويكفي ان الفن يمتلك حدوده من داخل تكوينه وطبيعته كحاجة انسانية متقدمة.
وهذه الحدود الاخلاقية انما استمدها ويستمدها من اخلاقيات الاديان السماوية المتعاقبة والتي توجت بقيم الاسلام كفلسفة دينية ودنيوية متكاملة.