| روايات : قبل الرحيل 1 | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:01 | |
|
قبل الرحيل
روايـــة
من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1997 - 1 - تقع قريتنا فوق رابية تتوسط سهلاً فسيح الأرجاء، يحيط بها من كل جانب، يكتظ بالكروم وبيارات البرتقال، كما تنتشر في بعض جنباته حقول القمح وبساتين الفاكهه من كل نوع ولون. وقد اختلفت فيها آراء أهلها قبل غيرهم. فمنهم من يقول إنها ليست سوى هضبة عادية، أوجدتها الطبيعة، فيما يقول آخرون انها تقوم على أنقاض مدينة رومانية غابرة. أما من زارها من اليهود القاطنين في مستعمرة (رخبوت) القريبة، أو (ريشون)، عيون قارة، الأبعد قليلاً، فقد زعموا أنها بنيت فوق أنقاض بلدة يهودية من عهد داوود وسليمان. تشغل المباني، متباينة الأشكال، سفوح الرابية، فتبدو للرائي، عن بعد، كأنها أهرامات الفراعنة القدماء. وعند القمة يقوم مسجد القرية الأثري، الذي يرجع تاريخ بنائه الى أوائل الفتح الأسلامي لهذه الديار، قبل نيف وثلاثة عشر قرناً. وتكتنف المسجد ساحة فسيحة يتجمع فيها، معظم النهار وشطراً من الليل، لفيف من الباعة الذين لا يفتأون يعلنون عن بضاعتهم بأصوات تملأ المكان ضجيجاً : عرقسوس.. فلافل..ملبس..كرابيج حلبية... مع أن هذه لم تكن (كرابيج)و لا هي من حلب، كما تبين لي فيما بعد، الأمر الذي أكد لي كم يخدع الكبار الصغار دون أن يرف لهم جفن..! تتشعب أزقة القرية الضيقة المتعرجة بين بيوت عتيقة، شيد بعضها من القش واللبن، وبعضها الآخر من الحجارة المقامة على غير انتظام، تكاد تتلاصق شرفاتها ونوافذها. عدد قليل منها بدا أكثر حداثة، وتلك هي منازل العائلات الثرية القليلة التي تمتلك الأراضي وبساتين البرتقال. من بين هذه المنازل دار فخمة ذات طابقين فسيحين، تملكها عائلة (الجمل)، تقع بجوار منزلنا الصغير الذي حاولوا شراءه من والدي مراراً دون أن يفلحوا، مع أنهم كانوا يملكون أكبر بيارات القرية، فضلاً عن أراضي شاسعة. وهم التجار الوحيدون للحمضيات فيها. حيث كانوا يتعهدون بيارات قريتنا والقرى المجاورة، بالضمان، ويستخدمون الكثير من أهلها طوال فصل الشتاء في موسم البرتقال، لقطفه وتغليفه، ثم نقله إلى مرفأ يافا، لكي يشحن، من ثم، الى مرافئ أوروبا، وقد رسمت على صناديقه العلامة التجارية التي طبقت شهرتها الآفاق : "برتقال يافا "Jaffa oranges ". على الرغم من كل شيء كانت (يبنا) تبدو لوحة فنية، ارتجلتها الطبيعة على غير نسق أو نظام، فصنعت من ذلك المزيج المتنافر جمالاً أخَّاذاً. ولئن كانت قريتنا صغيرة تكاد تنعدم فيها الخدمات العامة، لإهمال السلطات لها - ولم يكن ذلك استثناء لها على أية حال - إلا أن الحياة فيها لم تكن على قدر كبير من السوء، فهي ذات مناخ جميل، وطقس معتدل ومناظر طبيعية خلاَّبة. كما أنها تتمتع، بسبب موقعها، بعدد من المزايا التي لا يستهان بها، إذ يمر عبر أطرافها الشرقية خط السكة الحديدية القادم من محطة اللد شمالاً، والمتجه جنوباً نحو غزة ورفح، ثم العريش فالقنطرة في الأراضي المصرية. وتقوم على جانبيه أشجار الكينا الباسقة، ملقية بظلالها الوارفة على امتداده، باعثة مع تماوج الرياح، أنساماً عليلة يتفيؤها المارة من فلاحين وعمال، في غدوِّهم ورواحهم. كما يمتد عبر الأطراف الغربية للقرية طريق عريض معبد يتجه شمالاً إلى يافا، ماراً بقرى عربية عديدة، غرست بينها بعض المستعمرات اليهودية، بمعرفة حكومة الانتداب البريطاني وحمايتها. وبمحاذاة هذا الطريق، غرباً، تقع الساحة الرئيسية للقرية والتي تقام فيها، عادة، سوق الثلاثاء الشهيرة، التي يؤمها العديد من أهالي القرى المجاورة، حيث تتوافر فيها كل الأشياء، بدءاً من الخضار والفواكه، حتى الدواب والدواجن والغلال. وعند الزاوية الشمالية لهذه الساحة شيدت المدرسة الابتدائية الوحيدة فيها، من حجر أبيض يميزها عما حولها. وبجوارها تماماً تقع المقبرة التي لم تكن توحي بالوحشة، بل كانت أشبه بمنتزه عام لما يتخللها من أشجار ظليلة تحتضن رمالها الذهبية، يخترقها طريق يفضي إلى البحر عبر الكثبان الرملية، الحافلة بكروم العنب وأشجار التين والجميز، تتماوج على سفوحها وبين جنباتها في اتساق رائع بفوضاه وعدم انتظامه. وعلى مرتفع يحف بهذا الطريق ينتصب مقام - سيدنا أبي هريرة - كما كانوا يطلقون عليه، في غير قليل من الاجلال والتعظيم، والذي اعتاد الناس أن يتخذوه مزاراً، ومكاناً للوفاء بنذورهم. كما ألفوا أن يقيموا هنالك، وتحت ظلال أشجار الكينا العتيقة التي تكتنفه، سباق الخيل في مناسبات الأعياد والأعراس مع عزف الأرغول ودقات الطبول، وحلقات الدبكة . جو قريتنا أخَّاذ ساحر. ففي الصيف تنساب النسائم الرقيقة، القادمة من البحر خلال البساتين والكروم، فترطب أجواء أزقتها الضيقة ومنازلها الوادعة. وفي الشتاء تكسو سماءها الغيوم، وتهطل الأمطار بوفرة مبشرة بقدوم الخير والخصب. يحلو لنا، عندئذ، أن ندلف خارج منازلنا تحت وابل المطر الغزير، على الرغم من تقريع أمهاتنا لنا، كيما نستمتع بمرأى الماء المتدفق منحدراً من أعالي القرية، خلال قنواتها الصخرية المتعرجة، مرسلاً خريراً صاخباً، بلونه القرميدي الداكن، الذي اكتسبه في رحلته عبر أسطحة المنازل وجدرانها الطينية، ومن تربة الأرض الحمراء. نغوص وسط مجرى مائي، كثيراً ما نسيء تقدير قوته، فلا تلبث المياه أن تسحب أحدنا، فنهرع إليه صائحين مهللين، في مزيج من الفزع والفرح. وكلما لاح لنا أن الخطر الذي يتهدد زميلنا أكبر كانت بهجتنا أوفر..! يقع منزلنا على الطريق الرئيسي، عند منتصف السفح صعوداً وهذا الطريق هو صلة الوصل بين أعلى القرية وأدناها. كما أنه يشرف على البيوت الواقعة أسفل بيتنا، والمقاهي والدكاكين البادية عن بعد بمعروضاتها متباينة الألوان والأنواع، والمضاءة ليلاً بمصابيح الغاز. ولقد كنا نحظى، ونحن جلوس على الشرفة (الليوان) وبفضل موقعنا هذا، بسماع الأغاني ونشرات الأخبار المنطلقة من جهاز الراديو في مقهى (حامد القاضي) عن كثب، فيما تتماوج أمام أبصارنا أشجار البرتقال، مترامية حتى الأفق. لم يكن الراديو شيئاً مألوفاً بعد في تلك الأيام. لم يكن في القرية كلها سوى عدد منها لا يبلغ أصابع اليد الواحدة، يملكها سراة القوم، وفي طليعتهم المختار، وقد كان هذا خالاً لأمي. كان الناس يحارون في تفسير تلك الظاهرة العجيبة. حسب بعضهم أن ذلك الجهاز يحتوي رجلاً بداخله يصدح بالغناء، وهو نفسه يتلو القرآن، ويأتيهم بأنباء المشرق والمغرب أيضاً، واخبار الأولين والأخرين. كل أولئك وهو قاعد في مكانه لا يريم. إذن هذه احدى علامات الساعة واقتراب يوم القيامة بلا ريب ..! عزز هذا اليقين، حجم الجهاز الذي كان يقارب المتر مربعاً أو مكعباً على أقل تقدير، مما يتيح للرجل الجلوس داخله في راحة تامة...! في أمسيات الصيف، كنا نمضي سهرتنا في تلك الشرفة، أبواي، وأخواي، الأكبر والأصغر سعيد وأحمد. وكانت أمسياتنا أكثر ما تكون بهجة، وجمالاً أيام الانتصاف من الشهر القمري، حين يطل البدر قرصاً مستديراً ناصعاً من وراء الأفق، نرقبه فيما هو يمضي صعداً نحو قبة السماء، مضفياً على الكون والأشياء نوراً وبهاء، يغمر نفوسنا بالطمأنينة والسلام. ثم لا نلبث أن نعمد إلى اختراع الحكايا، وترديد ما يختلقه أو يرويه الوالدان من أساطير عنه، فيما تتناهى إلى أسماعنا أغنية من بعيد. وتبلغ سعادة أمي أوجها إذا كانت (أم كلثوم) تردد أغيتها الأثيرة لديها : .... على بلدي المحبوب وديني ... زاد وجدي والبعد كاويني. تتجاوب أصداؤها في كل الأرجاء برنينها الساحر، تثير الشجن والحنين إلى شيء غامض مجهول. | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: 2 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:02 | |
| - 2 -
كان أبي سيد البيت المطاع. كلمته نافذة، ورأيه لا يناقش. شأنه في ذلك شأن سائر الرجال. وكانت أمي، بدورها، كغالبية النساء الريفيات، تجلُّ أبي وتوقره. لا تجادله في أمر، ولا ترد له مطلباً، إيماناً منها بالحكمة المأثورة القائلة بأن الزوج هو "الرب الأصغر" وأن غضبه "من غضب الخالق" جلَّ شأنه.
ولم يغير من هذا الوضع عشرتهما الطويلة الأمد تحت سقف واحد. فهي لم تكن تجد في نفسها الشجاعة الكافية لمفاتحته في شأن من الشؤون العامة أو الخاصة، دون أن تقدم لذلك بشيء من التسويغ او الاعتذار المسبق.
من هنا كانت مهمتها حرجة في ذلك الصباح، مما جعلها تقدم طعام الأفطار وهي في حالة من الاضطراب، مع أن المسألة لم تكن على تلك الدرجة من الخطورة. كان عليها أن تطلب اليه - أو على الأصح أن ترجوه - بأن يصطحبني إلى المدرسة، إذ كنت قد تأخرت في اليوم السابق بضع دقائق عن بدء الدرس الأول، وطلب إليَّ الأستاذ (عبد الخالق) أن أحضر في اليوم التالي بصحبة ولي أمري. ترددت والدتي قليلاً قبل أن تخبره بذلك، خشية أن يصَّب جام غضبه علينا جميعاً، ممثلين في شخصها. أو أن يوجه لها عاصفة من اللوم على تقصيرها في رعاية شؤون أولادها..!
كنت إذاَّك في أواخر السنة الثامنة من عمري. وفي الصف الثالث الابتدائي على وجه التحديد. ولم أكن قد مررت بالصفين الأول والثاني شأن من هم في مثل سني. إذ كنت قد أمضيت عامين في كتَّاب الشيخ (عبد الكريم كرِّيم) قبل أن أنتقل إلى المدرسة الأميرية، وفي أواخر السنة الدراسية أيضاً. وكان ذلك بسب مشاجرة وقعت بيني وبين طفل آخر من أترابي، لطمني على أثرها معاونه الشيخ أسعد - وهو كهل ضرير - على وجهي، فخرجت للتو مهرولاً إلى دارنا القريبة، حتى دون أن أنتظر ساعة الانصراف.
لم تكن الدراسة في ذلك الكتَّاب تنتظم التلاميذ صفوفاً أو فصولاً، بل كنا نجلس، كيفما اتفق، في فناء الدار المظللة بعريش من العنب. ثم نأخذ في ترديد آيات من القرآن الكريم، وراء الشيخ بأصواتنا الرنانة، التي كثيراً ما أقلقت راحة سكان الحي بأكمله. أو نعمد إلى كتابة وظيفة (الخط) طوال النهار حتى يصيبنا الملل بالدوار. وكان ذلك الدرس مجرد نسخ للسور الصغيرة على ألواح من الأجر، دون أن نفقه لما نكتب أو نقرأ معنى. أما في فصل الشتاء فكنا نقبع على حصير في قاعة فسيحة الأرجاء، ارتفع سقفها أمتاراً عديدة كي يزيد من برودتها. ليس لها سوى نافذة واحدة تطل على فناء الدار. وتردد بيننا انها كانت تستخدم من قبل مخزناً للتبن و الغلال، وفي فترة من الفترات كانت اسطبلاً يؤوي عدداً من البغال كان يملكها أصحاب الدار فيما سلف..!
كان أبي - كغيره من الناس في ذلك الوقت - يؤمن بما كان سائداً من نظريات وأفكار بين أهل القرى، تجمع في مجملها على أن التعليم الحق وقف على الكتاب دون غيره. وأن المدارس الحكومية التي أنشأها الانكليز لا تعلم غير البدع والضلال ..عن القط والفأر والثعلب.. وراس روس.. هذا بدلاً عن تحفيظهم القرآن الكريم..! لهذا كان عسيراً إقناعه بجدوى دخولي المدرسة الحكومية لولا تلك الحادثة. من هنا يمكنك أن تدرك مدى حرج والدتي وهي تحاول مفاتحته في ذلك الشأن.
بيد أن والدي - وهذه كانت مفاجأة لأمي لم تتوقعها - استشاط غضباً. لعن الكتَّاب وأصحابه. أمسك بيدي، وانطلق بي إلى دار الشيخ عبد الكريم، ليصب هنالك، وعلى رأس الشيخ أسعد (معاونه) سيلاً من عبارات التأنيب والتنديد. بل وليعلن على الملأ بأن ولده هذا لن يبقى في ذلك الكتَّاب بعد ذلك اليوم. وأن هذا الولد "خسارة فيكم بالله العظيم.. ". فأمثاله من النابهين لا ينبغي لمثل هذا المكان أن يحظى بهم. وهكذا خسر الشيخ عبد الكريم، بسبب الشيخ أسعد، أرغفة الخبز، وأعداداً من البيض المسلوق، ومواد غذائية أخرى كان يتقاضاها أجراً، بمثابة رسوم تعليم..!
لم يكن أبي قاسياً تماماً، لكنه كان حازماً، فما أن غادرنا الكتَّاب، في ذلك الصباح، ثم يممنا شطر المدرسة الحكومية، استجابة لرجاء أمي، حتى أخذ يحادثني، لكأنما يحاول التسرية عني، أو إشعاري برضاه علي، لا أدري. مررنا بدكان البقالة لصاحبها (أبو العبد الرملاوي) الذي سرعان ما هب واقفاً، ليرد تحية الصباح بحفاوة واضحة، داعياً أبي لمشاركته تناول القهوة. ثم مررنا أمام دكان الحلاق (أحمد الجمل). وكان هذا منهمكاً برش الرصيف أمام دكانه بالماء، وذلك على الرغم من مطر الليلة المنصرمة. انعطفنا يميناً لنطل على الطريق العام. سألني عن موعد الامتحانات المقبلة في المدرسة. ثم ربت على كتفي، وهو يشدني بيده من كتفي البعيد عنه، كي التصق به، وهو يقول:
- اذا كان ترتيبك جيداً فلسوف أشتري لك حذاء جديداً..!
لم تكن فرحتي، عند ذاك بالهدية الموعودة بقدر ما كانت من أجل انفراج أسارير أبي.
واصلنا سيرنا المتعرج تبعاً لانعطافات الطريق. رائحة التربة المبللة بمطر الليلة الماضية تنبعث نقية نفاذة، وهدير البحر خافتاً يأتي من بعيد، وغيوم تباينت ألوانها ما بين بنفسجي رقيق، ورمادي داكن تتراكم عند الأفق الغربي. كنت أرقب السحب وهي تسبح من فوقنا، فأنشغل بها لحظات، عن الطريق والمدرسة. أتصورها أشكالاً خرافية عجيبة كتلك التي تتراءى لنا في الأحلام.
تنبهت إلى جلبة وصياح، سرعان ما تبينت مصدرهما. كنا قد بلغنا الطريق العام، نوشك أن نقطعه إلى الطرف الآخر، حيث السوق ثم المدرسة. الناس يتحركون في ذعر. سيارات عسكرية تعبر الطريق مسرعة، ثم تنتشر في اتجاهات مختلفة. بعضها يتوقف، وبعض يتابع السير فيما الجنود يقفزون منها في كل اتجاه. انطلقوا يصيحون بالمارة وبمن هم في المقاهي مشرعين بنادقهم وحراباً لامعة في مقدماتها تثير الرعب. توقف أبي عن السير. بدا عليه القلق. تمتم بصوت خفيض:
- الانكليز.. يافتاح يا عليم.. نعود يا بني إلى البيت.. لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم..!
وعلى حين غرة أخذوا يطلقون الرصاص في مختلف الأنحاء. اجتاحني الذعر. اقتربت من أبي ألوذ به.. سمعت عنهم في المدرسة، وفي كل مكان لكني لم أرهم رأى العين في مثل هذه الحال قبل ذلك.
صرخت في فزع:
- نعود يا أبي ..
وفي ذات اللحظة رأيته يضع يده على صدره، تجحظ عيناه.. يرتجف.. الدماء تنبثق من صدره.. تفلت يدي من قبضته.. يترنح.. يتهاوى.. يسقط.. يعقد الذهول لساني.. يا إلهي.. هذه اللحظة كنت أسمع صوته.. ارتميت فوق صدره ..أضمه.. ألتصق به - أغمره بالدموع.. أصرخ بجنون:
.. يابا.. يابا ..
وجرس المدرسة يدق وسط زخات الرصاص آتياً من مكان سحيق. | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: 3 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:03 | |
| - 3 -
وقفت أمي قرب باب الدار مع من تجمع من الجارات إثر سماعهن أصوات الرصاص، وصياح الصبية الذين اندفعوا يتراكضون خلال الأزقة. أدركن للتو أنها عملية انكليزية أخرى. استوقفن واحداً من الغلمان، فأنبأهن بأن الانكليز قد أطلقوا الرصاص على الناس في المقاهي والطرقات والسوق.. إنهم يطلقون الرصاص في كل مكان.. أخذن يتساءلن في توجس وقلق عن السبب الذي دعا هؤلاء إلى اقتراف جرائم جديدة في قريتهم في هذا اليوم، خمنت إحداهن قائلة:
- ربما كان ذلك بسب نسف الثوار للخط الحديدي بالأمس على مقربة من القرية .
عقبت أخرى بسخرية:
- ومتى كان هؤلاء ينتظرون سبباً يبرر ارتكاب الجريمة التي يريدون يا حبيبتي ..
تدخلت ثالثة :
- إذا كان الأمر كذلك يا أم مريم فلسوف تأتي اليوم الانذارات بالعقوبات الجماعية التي ابتكروها.. سيفرضون علينا عقوبات فادحة هذه المرة غرامات وجزاءات أيضاً..
قالت أم مريم باستنكار :
- وهل بقي لدينا ما نقدمه يا فاطمة ؟
- من قال لك، يا حبيبتي أن (إنسانيتهم) سوف تجعلهم يقدرون ظروفنا ..؟
- ولكن أليس هذا هو الظلم بعينه؟ الفاعل واحد أو اثنان أو ثلاثة، فما معنى أن يؤاخذ الجميع..؟ هذا إن كان ما فعلوه جريمة حقاً ..!
قالت (أم سعيد) وقد ظلت صامتة طوال الوقت :
- تتحدثن عن الظلم والظالمين، يا نور عيني، ووجودهم هنا، هو منتهى الظلم. بأي حق هم هنا أصلاً ..؟
سادت لحظات صمت. مضت كل واحدة منهن تضرب أخماساً في أسداس، بينها وبين نفسها، إلى أن عبرَّت أم مريم عما كان يساورها من قلق:
ترى من هي المسكينة التي حلت بها المصيبة في هذا النهار ؟
ردت أم عدنان في صوت خافت تشوبه نغمة حزن طال بها العهد:
- كما ترين. نربي أبناءنا الأيام والسنين.. نفني أعمارنا في تنشئتهم يوماً بيوم، ساعة بساعة.. نبني عليهم آمالنا العريضة.. نود لو نفديهم بأرواحنا إذا أصابهم مكروه.. ثم نفقدهم في طرفة عين.. يد غريبة تجيئ من أقصى الأرض، تضغط على الزناد، وينتهي كل ما بيننا..! أطرقت النسوة إجلالاً لأم عدنان التي سبق لها أن فقدت ولدها عدنان في ظرف مماثل منذ شهور قليلة ومابرحت تتشح بالسواد .
- إنهم.. هكذا.. ببساطة متناهية يسلبوننا حق الحياة، ولا يحاسبهم أحد.
- من أجل ذلك قامت الثورة يا عزيزتي. هي التي ستأخذ على عاتقها أمر حسابهم .
قالت أم سعيد، لنفسها وهي تستمع إلى رفيقاتها، أنها سوف تطلب إلى (أبو سعيد) فور عودته، أن يقلل من خروجه منذ اليوم، ما دامت الاستهانة بأرواح الناس قد بلغت هذا الحد.
لكن خوفاً غامضاً يسري في أعماقها. بل إنها تحس بذلك الشيء المبهم يلم بها منذ أيام، دون أن تعرف كنهه أو تجد له تفسيراً. حتى أحلامها كانت في الأيام الأخيرة كوابيس مرعبة. وهي من ثم، تلعن الشيطان تارة، وتعوذ بالرحمن، تارة أخرى، مؤملة ألا يكون مبعث ذلك الانقباض سوى كآبة عارضة لن تلبث أن تزول، أو بسبب مرض خفي يلم بها لم تتبين ما هيته. آه ليت الأمر يكون كذلك..! أو هي تلك الأحداث التي تسود البلاد فتقبض النفس.
تحاول التخلص من ذلك الشعور الممض بالجنوح إلى التفكير في المستقبل، وبما يمكنها أن تتخذ من أسباب الحيطة - في نطاق صلاحياتها المحدودة - بما يضمن سلامة أبنائها، وأبيهم .
أصوات هادرة تترامى عن بعد. تقترب رويداً.. تتعالى.. تتضح معالمها أكثر فأكثر، إلى أن تتحول إلى هدير مرعد. جمهور غفير تبدو طلائعه عند ناصية الشارع. يهرع الأطفال من البيوت المجاورة على جانبي الطريق، يرفدون الموكب بانضمامهم إليه، فيكبر، ثم يكبر، حتى يضيق بهم الزقاق. همت عائشة (أم سعيد) بأن تنادي أحدهم كي تسأله عن ذلك الشهيد المحمول على الأكف والأكتاف. غير أنها أمسكت حين رأت غلاماً يهرول نحوهن، وهو يصيح بأعلى صوته، وكأنه يعلن بشارة سوف ينال عليها مكافأة :
- الانكليز.. قتلوا عم سليم.. أبو سعيد ..!
شق الفضاء صراخها المروع فيما هي تندفع نحو الجموع، والنسوة اللائي ذهلن للحظة، أمسكن بها لمنعها من اقتحام الموكب، وهي في حالة تشبه فقدان الوعي. يخرج من بين الجمهور شقيقها (رمضان) متصدياً لها، محيطاً إياها بذراعيه، زاجراً ومناشداً :
- قضاء الله الذي لا مفر منه.. إنه شهيد يا أختاه.. هنيئاً له.. كفى.. كفى بالله عليك.. أنت عاقلة ياعائشة.. إنه قدره.. !
تصرخ في التياع :
- المجرمون.. قتلك المجرمون.. ويلهم من الله.. أين ولدي.. أين أمين ؟
هتف رمضان كي يُسمعها.. وربما ليسكتها :
- أمين بخير.. أقسم لك أنه بخير..
كنت في تلك اللحظة أهرع إليها.. أرتمي في حضنها.. يهزني النشيج هزاً، كأني ألتمس في حضنها عودة أبي للحياة.. شعرت كأني غبت عنها دهراً.. وها أنذا أعود. طفقت تضمني إليها بعنف.. تقبلني بجنون، كأنها لا تصدق أني بين يديها. غمرت وجهي دموعها.. اختلطت دموعنا معاً، وهي تغمغم بكلمات تضيع بصوتها المبحوح بين البكاء وأصوات الجموع الغاضبة .
تبين أن عدد قتلى ذلك الصباح خمسة، والجرحى ضعف هذا العدد. شيعوا جميعاً في جنازة واحدة، تحولت إلى مظاهرة تندد بالجناة، وتطالب بالاستقلال وسقوط بلفور..! حال بعضهم بيني وبين مشاهدة القبر ساعة الدفن. دعينا مع حشد من الناس إلى الغداء في بيارة أبو جبريل النجار، حيث ذبحت الخراف، وقدم طعام كثير للجميع. في (بواطي) ملأى بالأرز واللحم والرجال لا يكفون عن الحديث حول الحادث وحوادث أخرى كثيرة سبقته في قريتنا، كما في غيرها.
في دارنا واصلت النساء إحضار الطعام، ومواد أخرى كالسكر والقهوة والأزر. ولا يزيد ذلك أمي إلا حزناً وألماً وبكاءً. طفقن يعزينها بكلام كثير. يضربن الأمثال، ويرددن الحكايا من حوادث الأيام الغابرة والراهنة .
صبيحة اليوم التالي لتشييع جثمان أبي، وضعت لنا أمي على (الطبلية) فطوراً من البيض المسلوق والزيتون وخبز الطابون، وصحناً من العسل. هذا الأخير كان مما جاءت به الجارات. لم يكن العسل طعاماً مألوفاً لدينا في وجباتنا المعتادة. دار الجمل يتناولونه، ودار ابو عون وغيرهم من اثرياء القرية، أما نحن..؟
أُحسُّ بفراغٍ يحتلُّ مكان أبي، حيث كان يجلس بيننا، ونحن من حوله.. لكن ها هو ذا أمامي في مكانه المعتاد. صغيرتنا علياء تقبع في حجره. يضحك لها.. يضمها إليه.. يمسِّد شعرها.. يضع اللقمة في فمها بعد أن يغمسها بالعسل.. تسمَّرت يدي في مكانها قبل أن تبلغ الطبق. انفجرت بغتة باكياً، بصوت ارتاعت له أمي الجالسة قريباً منا مع جاراتها، فأقبلت مسرعة، تاركة النسوة اللواتي ملأن المكان صخباً. تبعنها سراعاً. واحتضنتني أمي وبصوت مبحوح : " مالك يمَّة.. " انفجرت علياء أيضاً تنشج بصوت عالٍ. بادرت خالتي الى حملها.. تلصقها بصدرها.. تهدهدها.. تقبلها وهي تردد بصوت يخنقه البكاء .
".. مالك يا حبيبتي.. اسم الله عليكِ.. الله يجازي أولاد الحرام.. أبوكِ مسافر بكره ييجي ياحبيبتي ...
أبي يرمقنا بعينين حزينتين.. يمضي بعيداً يتلاشى في الغمام المائل مابين عينيَّ والسماء.. | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:04 | |
| - 4 -
ران على المنزل سكون حزين. أقيم فيه الحداد. ارتدت أمي ملابس سوداء أضفت عليها مزيداً من الجلال والمهابة. أنظر إليها فأكاد لا أعرفها لفرط تغيرها. فقد علا وجهها شحوب ينم عن حزن كظيم. ذبلت عيناها، وفارقتها ابتسامتها العذبة، وتوارث خصلات شعرها الفاحم التي كانت تزيد من نضارة محياها، تحت منديل أسود، قلما تزيحه عن رأسها .
اعتكفت في بيتها لا تبرحه. وبدت منطوية على نفسها تبثها الحزن والشجن. زاهدة في لقاء الناس أو التحدث إلى أحد. لقد أمست أرملة، وهي لما تزل في ريعان صباها.
" أرملة..! يا لها من كلمة كئيبة. لم تحسب يوماً أنها سوف تحملها لقباً أبدياً. ولكن ها هي ذي منذ اليوم سوف تحمل من هموم الحياة وأعبائها ما لم يكن يخطر لها على بال. كان سليم يملأ عليها حياتها، بشخصيته القوية الآسرة. تشعر في كنفه بالحماية والأمن. لقد ذهب الآن، تاركاً إياها منكسرة القلب والجناح، مع أطفالها الأربعة، لكأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميها كعهدها بها فيما سلف. بل إن الكون كله يبدو الآن موحشاً مخيفاً، وكأنه قد خلا من كل شيء" .
لم يترك لنا الشيء الكثير، اللهم إلا هذا المنزل العتيق. لم يكن سيئاً، على أية حال. غرفتان تمتد أمامهما شرفة. هي في الواقع مصطبة مرتفعة مدت بالأسمنت الأسود. وقد بني البيت من الحجر الرملي، المتوافر في محاجر القرية مجاناً لمن يشاء. أما السقف فمن القرميد الرمادي. وقد ارتفعت أرضها جميعاً عن سائر فناء الدار، فبدت منها أزقة القرية المنخفضة عن مستواها، والمنازل القديمة المفضية إلى البيادر، التي تبدو عن بعد وسط نطاق أخضر من بيارات البرتقال. وقد اعتاد الفلاحون جمع محاصيلهم من القمح والذرة في تلك البيادر، حيث يدرسونها بواسطة الدواب، فيما تتردد أصواتهم بأهازيجهم ومواويلهم، يقطعونها بين آونة وأخرى، لينتهروا دوابهم ويحثونها على مواصلة السعي.
فضلاً عن هذا كان بيتنا ينطوي على شيء غير قليل من العلل. من ذلك أن بعض قرميده قد تشقق أو تكسر منذ زمن، مما يتيح لقطرات المطر التسرب إلى داخله. أما جدرانه فمتآكلة، ذهب طلاؤها وبعض طينها. كما أن فناءه حافل بالحفر. صحيح أن أبي كان يزمع ترميمه منذ سنين، إلا أنه كان يرجئ ذلك من الشتاء إلى الصيف، عاماً بعد عام، منتظراً أن يأتيه الله برزق يوسع عليه بعض الشيء، يمكنه من إصلاحه مرة واحدة. بيد أن توقيت الأجل كان الأسبق. كما نملك أيضاً قطعة أرض صغيرة، في منطقة (أم الذهب) وقد أسموها كذلك - فيما يروى - لخصوبتها ووفرة محصولها. كانت تزرع قمحاً في عام وذرة في العام الذي يليه، تبعاً لتقاليد الفلاحين المرعية في هذا الشأن.
ليس معنى هذا أننا كنا نحسب في عداد الفلاحين أو الملاكين الموسرين. بيد أنها كانت تقينا الحاجة و العوز. ولم يكن أمر تعهد الأرض بالأمر الهين، لا سيما أن والدي لم يكن يمارس مهنة الفلاحة بنفسه. كان يعهد بها إلى (مرابع) هو العم عبد الغني، لقاء حصة من نتاجها. أما عمل أبي فقد كان موسمياً، شأنه شأن الكثيرين، في فصل الشتاء، موسم قطاف البرتقال .
كانت أمي في ذلك الصباح منشغلة البال. فلقد خلت إلى نفسها تماماً، لأول مرة، عقب انقضاء أيام العزاء بضجتها و زحمتها. أحست كمن يهبط من قطار بعد رحلة طويلة مضنية، والطنين لا يزال يصم أذنيه. انصرف الناس - بمن فيهم الأقارب - كل إلى شأنه. لا ريب أنهم سوف يذكرون محاسن الفقيد من آن لآخر، لاسيما في المناسبات العامة، كالأعياد مثلاً، إلا أنهم سوف ينسونه، بالتأكيد، على مر الأيام. أما هي فاليوم تبدأ مأساتها الحقيقية. وهي التي لن تنسى قط. بل إن مرور الأيام لن يزيدها إلا حنيناً وشجى لذكريات عزيزة خلت، امتزجت بدمها وروحها، وأضحت جزءاً من حياتها وكيانها. من ثم، فهي سوف تتمثلها بحجمها الحقيقي في كل لحظة منذ الآن، وتعيشها في أحلام يقظتها على الدوام. أفاقت من هذه الدوامة على واقعها المرير، الذي لا علاج له، حتى ولا بالصبر الذي كانت الجارات يتحذ لقن فيوصينها به. على الرغم من ذلك حاولت أن تصرف نفسها عن أحزانها - ولو إلى حين - كيما تفكر فيما سوف يؤول إليه أمر بنيها من بعد. قفزت إلى ذهنها صورة أكبرهم (سعيد) لكنها ما أن تذكرته حتى أصابها القنوط. قطبت جبينها، واكفهر وجهها، وألمت بها مشاعر الأسى من جديد :
".. صحيح أنه قد بلغ الثالثة عشرة من عمره، وأنه يمكن أن يعمل عند بقال، أو حلاق، أو فران - لكنني لا أنتظر منه خيراً كثيراً.. ولد شقي منذ طفولته.. أدخلناه المدرسة فهرب منها وأذاقنا الويل.. أجل كان يهرب من المدرسة، ليقضي سحابة نهاره بين الحقول مع مثيل له من رفاقه الملاعين.. يكسِّر أغصان الأشجار.. يسرق البرتقال من بيارة العطار لكي يتخذ من حباته كرة يلعب بها.. يتسلل عبر السياج فيأتيني بثيابه ممزقة.. يتعلق بالسيارات العابرة التي أو شكت إحداها أن تدوسه ذات مرة في طريقها من يافا إلى غزة..!
".. تصورنا أول الأمر انها مجرد نزوة عابرة.. (ولدنة).. وأن الأيام كفيلة بإصلاحه .و لكن الأيام لم تزده إلا شقوة كلما شب ونما. ".. أخرجناه من المدرسة ليعمل عند (ابو درويش) الوافد من يافا، ليفتح دكاناً للحلوى عند السوق، قائلين أن (الصنعة) خير وأبقى له من دراسة لا يرغب فيها ومن أجل مستقبله قلنا (صنعة في اليد أمان من الفقر). ولكن شكاوي الرجل بدأت تصلنا تباعاً. كان آخرها قبل أيام، وهي بمثابة إنذار بالفصل، إذا ما وجده يعود للعب الورق مع بعض أترابه، في عقر حانوته أثناء غيابه عن الدكان.. ".. فإذا كان هذا شأن سعيد، يوم كان الأب الصارم فوق رأسه، فكيف به اليوم وقد غدا بغير حسيب و لا رقيب ..! خطر لها ثاني أبنائها أمين. الولد العاقل المتزن - كما كانت تدعوه - هادئ وديع. حتى ليبدو أكبر من سنه التي لم تجاوز الثامنة. وهي راضية عن سلوكه. إذ هو على النقيض من أخيه الأكبر تماماً. ولربما كان الفضل في هذا لذلك الأخ نفسه - وإن يكن عن غير قصد -. كان يؤلم أمين أن يرى ما يحيق بأبويه من كدر بسبب أخيه، فجاءت تصرفاته مختلفة عنه. وكان في ثناء أبويه الدائم عليه، فضلاً عن إطراء الجيران له ما يدفعه إلى العمل على إرضائهما .
لم يكن هذا - على أية حال - مدعاة لتخفيف آلام عائشة، وإنما كان سبباً آخر يضيف إلى أحزانها الشيء الكثير. إنها حزينة من أجله لأنه كذلك. ولما يعنيه فقد أبيه في سنه المبكرة هذه من تغيير في مسار حياته المقبلة، في اتجاه مستقبله برمته. لقد خطت الرصاصات المجرمة بالدم النازف طريق مستقبلهم جميعاً .
" أما أحمد فما الذي ينتظره هو الآخر..! كان ممكناً أن يشب في أحضان أبويه، شأنه شأن أي طفل في هذا العالم. كان ذلك ممكناً تماماً، لو لم تبتلنا الأقدار بهؤلاء الانكليز.. ولكن ما ذنبه هو؟ وأيُّ يدٍ أو خيارٍ له في هذا الذي يجري من حولنا ..؟
".. وعلياء الأثيرة عند أبيها، ربما لأنها الوحيدة بينهم، فضلاً عن أنها أصغرهم. من يأتيها، بعد اليوم (بحلاوة) أبو درويش، (وملبَّس) أبو العبد الرملاوي في المساء؟ تهرول عندما تراه قادماً عند ناصية الزقاق، فتلقي بنفسها بين أحضانه، وهو يجلس القرفصاء في انتظار وصولها إليه. تناغيه بكلمات غير مفهومه.. لكنها حلوة.. كالعسل.. كما يقول ...!
" وهي تعرف دالتها عليه، فتصر على الجلوس في حجره، تعبث بأطراف عباءته، أو تخطف مسبحته، وتدخلها كالقلادة في رأسها، وعندما تعلق بشعرها الكستنائي الغزير تشرع في الصراخ، فيما هو يضحك جذلاً، لأنها تكرر ذلك كل يوم دون أن ترعوي ...!
دلف أمين إلى المنزل في تلك اللحظة، متأبطاً كتبه ودفاتره. تجلدت. أمسكت دموعها التي أوشكت أن تنهمر. وتكلفت ابتسامة تواري بها مشاعرها. لكن مسحة الحزن على وجهها الممتقع، وفي عينيها الذابلتين، لم تفلح في إخفاء مكنونات صدرها .قالت أخيراً بصوت خافت مبحوح :
- وكَّلت أمري إليك يارب.. على رأي الحاجة : العبد في التفكير والرب في التدبير.. وكَّلت أمري إليك.. أنت حسبي ونعم الوكيل . | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:04 | |
| - 5 -
السابعة صباحاً. والشمس قد ارتفعت في الأفق تنبئ عن نهار قائظ. تحلق أفراد الأسرة الصغيرة حول (الطبلية) يفطرون. أرغفة الطابون، جبن وزيتون وزعتر في (زبادي) من الفخار. وإبريق صيني أزرق يتعالى بخاره، حاملاً رائحة الشاي والميرمية.
بدت والدتي عابسة الوجه مقطبة الجبين، وإن كان واضحاً أنها تتصنًّع التجهم، في محاولة منها لتهيئة جو ملائم من أجل إبداء ملاحظات زاجرة، المقصود بها - قطعاً - أخي سعيد. ولما كان ذلك يتكرر منها بين حين وآخر، فقد بتنا قادرين تماماً على التمييز بين جدِّها المصطنع، وجدِّها الحقيقي، حينما ترى هي ضرورة لذلك .
وفيما نحن ينظر أحدنا إلى الآخر، نحاول جاهدين أن نكتم ضحكاتنا التي توشك أن تنفجر، وقبل أن تبدأ تقريعها، طرق باب الدار على نحو يوحي بأن الطارق في عجلة من أمره. ذهب سعيد ليرى من بالباب، ثم عاد ومعه فوزي ابن خالتنا، ورفيقي في المدرسة. بدا فوزي على غير ما اعتدنا أن نراه : محتقن الوجه، منكوش الشعر، في عينيه آثار بكاء، تشير ثيابه إلى أنه ارتداها على عجل. بادرته والدتي بالسؤال ملهوفة وقد توجست، بحسها الفطري، لهذه الزيارة في هذا الوقت المبكر :
- ماذا يا فوزي؟ خير إن شا الله يا خالتي ..؟
أطرق هذا إلى الأرض. وبدا كأنه يوشك أن يجهش بالبكاء. ولما لم يحر جواباً، نهضت إليه، واقتربت منه، تحتضنه في حنو قائلة وقد ألم بها الوجل :
- ماذا هناك يا فوزي.. لماذا لا تتكلم يا خالتي .؟ هل حدث شيء عندكم؟
رد فوزي بكلمات متقطعة يخنقها البكاء الخافت :
- محمد.. خطيب أختي فاطمة.. أحضروه الآن مقتولاً ..!
- مقتولاً.؟ تقول مقتولاً..؟ ومن قتله؟
- يقولون انه كان في الليلة الماضية مع الثوار الذين هاجموا محطة رخبوت.
انطلقت أمي مسرعة إلى الغرفة المجاورة تبحث عن شالها وجواربها، فيما هي تصب اللعنات، على الانكليز، ويوم الانكليز. فيما اسئلتها المرتبكة تتلاحق بغير انقطاع دون أن تنتظر رداً عليها. ذهبت مع فوزي بعد أن أوصتنا بعدم الخروج من المنزل أثناء غيبتها .
تحايلت على سعيد ومضيت في إثرهما. وحين رأتني لم تقل شيئاً. تسللت بين جمع غفير من النساء اللواتي انتظمتهن حلقات في منزل خالتي (نعمة). انخرطن في البكاء، ولكن في حذر واضح، خشية أن ترتفع أصواتهن فتبلغ الشارع. وقد أغلقت نوافذ المنزل وبوابته، حتى تلك المفضية إلى الحاكورة، كيلا ينكشف أمر الشهيد، وانتماؤه لهذه الأسرة، من قبل الدوريات الانكليزية التي ما فتئت تجوب الطرقات منذ الصباح الباكر. ذلك أن آثار الدماء والكلاب البوليسية قادتهم إلى مشارف "يبنا"، ثم ما لبثت أن اختفت قبل التعرف إلى مستقر صاحبها، من ثم لم يعرفوا هويته. وما من أحد يعلم، ما هي الاجراءات الانتقامية التي سوف يعمدون إليها هذه المرة. انتقلت إليِّ عدوى الشعور بالحزن.
تذكرت (محمد المغاري) ذلك الشاب الذي كان يداعبني، بل ويمنحني قرشاً كلما التقيته في منزل خالتي. كان طويل القامة، مهيباً، أسمر الوجه، له شاربان دقيقان، وقد عقفا إلى أعلى، كذيل العقرب، عند طرفيهما. عيناه حادتان كعيني صقر. يرتدي كوفية بيضاء يطوقها عقال أسود. يمشي منتصب القامة شامخ الرأس، وهو يضم أطراف عباءته السوداء، فيبدو كأمير شرقي في حكايا ألف ليلة وليلة. هل مات هو الآخر ..؟ إنهم يقتلون أحباءنا وأهلنا دائماً ..!
الدار تغص بالنساء. لغط يختلط بالبكاء هنا والعويل هناك. كلام كثير غير مفهوم تتبادله النسوة. وعديد من الأطفال والغلمان ينسل بينهن كالسهام في إثر بعضهم بعضاً. فرصة لابأس بها للعب..! صبَّية بيضاء، مكتنزة الجسم ترتدي ثوباً أسود مطرزاً بخيوط حريرية ملونة على الصدر، يغلب عليها اللون الأحمر. وعلى رأسها شال أبيض ينسدل حتى منتصف ظهرها. قالت رداً على تساؤل رفيقتها النحيلة السمراء، التي تختلف عنها في كل شيء تقريباً، عدا ثوبها :
- ... في مستعمرة رخبوت ..
ردت الأخرى، مصححة :
- يقولون في المحطة، وليس في المستعمرة ذاتها .
- لا أدري.. ولكن ما الفرق؟ المهم أنه استشهد.. رحمة الله عليه ..
يقولون ان شاباً آخر من القبيبة استشهد معه.. تنهدت الفتاة وهي تضرب كفاً بكف، مرددة بلهجة يمتزج فيها الاستنكار بالأسى:
- يا خسارتك يا محمد المغاري ..!
- لم يفرح بشبابه بعد ..
- وهل ترك لنا الانكليز أفراحاً ؟
- والمسكينة فاطمة. انظري إليها هناك.. يا لحظها التعس ..
- ألا تعلمين أنها مجنونة بحبه ..؟
- أعرف ذلك. لقد سبق أن خطبها كثيرون قبله، لكنها رفضتهم جميعاً.
- تعنين أنها كانت تحبه حتى قبل أن يقرأوا فاتحتها ..؟
- هل هذا وقته يا سهام ؟
- أنا لا أقصد، لكن صدق من قال (إجت الحزينة تفرح ما لقيت لها مطرح) ..!
- ماذا تقصدين إذن ..؟ ثم لم لا تحبه؟ إنه شاب ممتاز في كل شيء. وهو شجاع لدرجة المخاطرة بحياته.. وها أنت ترين ..
- كان الله في عون أمه ..
- وفاطمة ..؟
- فاطمة تنسى مع الأيام. وهي جميله لن تعدم من يتقدم لطلب يدها غداً ..!
تعالت في الخارج أصوات، وقامت جلبة. توجهت نحو باب الدار مستطلعاً. كان هناك عدد من الجنود الانكليز يدفعون برجال من أهل القرية أمامهم، وقد سددوا بنادقهم إلى ظهورهم، يصيحون برطانتهم العجيبة، وكان واضحاً أنهم يكيلون الشتائم ويطلقون التهديد والوعيد ..!
ذلك (أبو حسين الشرقاوي) بينهم. وهذا (أحمد الجمل)، وذاك (ابو داود) صاحب مقهى (الاستقلال الوطني). ولأن هذا الأخير يمت لوالدتي بصلة قربى، كنت أعرف أنه من الثوار. لقد كانت لهؤلاء الرجال صورة مثالية من البطولة والهيبة في مخيلتي. أحس أن شرخاً أصابها ..! تساءلت في حيرة :
.. لم لا ينقضُّون على أولئك الجنود الذين لا تبدو عليهم امارات شجاعة خارقة؟ بل إن مظهرهم لا يوحي بالبطولة و لا بالشجاعة أو حتى بالرجولة. الخوف بادٍ على وجوههم بجلاء، على الرغم من البنادق التي في أيديهم. لا أعرف أسباب هذا الذي يجري ودواعيه. لماذا يجب أن يعاني الناس هكذا؟ أن يموتوا؟ أن يهانوا؟ أن يفقد الأطفال آباءهم ...؟
أولئك هم يبلغون الطريق العام، حيث وقف رتل من السيارات العسكرية على جانبي الطريق. يأمرونهم بالصعود إليها في خشونة وعنف فيصعدون. ترى إلى أين يمضون ..؟ بل ماذا سيصنعون بهم؟ ولأني كنت أفكر بصوت مسموع، فسرعان ما سمعت الرد يأتيني من رفيق لي كان قريباً مني:
- سينقلونهم إلى المحطة.. وهناك يقتلونهم ..! يوقفونهم على الجدار ويطلقون عليهم الرصاص ..!
- كيف؟ ولماذا ؟
لا أدري.. ولكنهم هكذا فعلوا منذ ايام في قرية "عاقر". هذا ما سمعته من أبي وهو يتحدث إلى جارنا (ابو شاكر).
- وهل يقتلون، كل هؤلاء الناس ..؟ هكذا ببساطة ..؟
لم يحر رفيقي جواباً. ولكنه عاد بعد قليل ليقول، وكأنه يزف بشرى سارة :
- أسمعت؟ قيل انهم وضعوا علامات على بعض المنازل والدكاكين والمقاهي لكي يقوموا بنسفها بعد أيام.. ربما غداً.. لا تدع تلك الفرجة تفوتك ..!
دوت أصوات المحركات في هدير مخيف زاد الجو المكفهر كآبة، شعرت بالحزن والأسى والمهانة معاً، فيما كانت السيارات تنطلق، إلى أن اختفت وراء سحابة من الدخان الكثيف .
مرضت علياء في ذلك المساء. عزت (الحاجة خضرة) سبب مرضها إلى افتقادها لأبيها .
قالت أم مريم بعد أن وضعت كفها على جبين علياء :
- البنت (سخنانة) يا جماعة.. حرام عليكم خذوها للحكيم .
غمغمت أمي كمن يتحدث عن مستحيل :
- حكيم ..؟ أي حكيم ..؟
أنفقنا أياماً ثلاثة، كما لو كنا في حالة طوارئ. وحالة علياء تزداد سوءاً. تصف كل من الجارات، شيئاً مختلفاً، مؤكدة أن وصفتها هي (الشافية) بإذن الله. تنفذ أمي نصائحهن جميعاً أملاً في وقوع معجزة. وهي لا تكف عن الدعاء وتلاوة ما تحفظ من آيات القرآن الكريم . | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:05 | |
| - 6 -
أمضيت معظم أيام العطلة الصيفية، في ذلك العام، في اللهو مع أترابي حيث نقضي سحابة نهارنا نلعب في ساحة (سيدنا وهب) الكرة، و الدحل، و الاستغماية. أو نصنع طائرات الورق الملونة، أو في تلبية طلبات أمي التي لا تنتهي. ولقد عجبت كيف كانت تؤديها كلها بنفسها أثناء وجودنا في المدرسة. فهي توفدني إلى الجارة " أم ماهر" لأحضر لها مقلاة، أو إلى "أم على" كيما أنقل إليها رسالة شفوية، أو إلى دكان " ابو العبد" لشراء رطل ملح أو علبة كبريت أو استعارة قدر من بيت الحاجة خضرة ..! ظل الحال هكذا إلى أن وقع لي حادث غيَّر مجرى تلك الحياة الرتيبة .
لا بد لي - بهذه المناسبة - أن أسجل أن ترتيبي في المدرسة كان الثاني، قريباً مما أراد أبي. فملأني الزهو، وأحسست أنه (أي أبي) يبتسم لي من عالم الأبدية. وزادت نسبة مشاجراتي مع أبناء الحي بعد أن شعرت - أو شعروا هم - بتفوقي عليهم ..! وحين تذكرت أبي ذلك المساء وفرحه بنجاحي لو كان حياً. بكيت بحرقة، وغطيت رأسي بالفراش كيلا تلحظ ذلك أمي جاءني من بعيد، وئيد الخطا مشرق المحيا، ابتسم لي وهو يضمني إلى صدره. ربت على ظهري، مسح رأسي بكلتا يديه، أمعن النظر في وجهي. قبلني. ثم استدار ليمضي عني، أصيح بصوت لايخرج من حنجرتي ضارعاً اليه أن يعود. لكنه يمضي متوارياً بين أشجار كثيفة عالية تلامس صفحة السماء ... !
خرجت يومئذ لقضاء شأن من تلك الشؤون التي كانت تكلفني بها والدتي. وبدلاً من أن أعود في غضون خمس دقائق، هي الوقت الذي يقتضيه ذلك الشأن، عدت بعد انقضاء خمس ساعات كاملة. لم تدع مكاناً دون أن تبحث عني فيه. سألت كل الجارات، والمارة. أرسلت في أثري رفيقي "صالح" الذي لم يمنعه من القيام بذلك الواجب مشاجرتي معه البارحة. ذهبت بنفسها إلى محل "ابو درويش" الحلواني. لعل سعيداً يعرف شيئاً عني. بل أوشكت - حين بلغ بها القلق مداه - أن تبحث عن (المنادي) كيما يعلن في الحارات القريبة والبعيدة عن (الولد الضائع). غير أنها فكرت - كآخر سهم في جعبتها - بأن تذهب إلى منزل خالتي نعمة عند " سوق الجميزة". وما أن رأتها شقيقتها حتى أقسمت عليها أن تتناول الغداء عندها، مطمئنة إياها بأن " الولد " لن يلبث طويلاً حتى يعود من تلقاء نفسه. ولكن أمي الملتاعة ردت بحنق ظاهر :
-(بالك فاضي وعيشك راضي يا نعمة.. أقعد عندك أتغدى والولد ضايع؟)
ردت خالتي بصوت ممطوط، لا يوحي بعظيم أكتراثها - كما ينبغي - لغياب ابن شقيقتها الأثير، مما أثار المزيد من حنق أمي حين قالت :
- لا بد أنه يلعب الآن مع أمثاله الشياطين، وأنت هنا تتقلبين على جمر ..! استهدي بالله يا شيخه ..! صدق من قال قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر..!
- لا إله إلا الله. يا حبيبتي يمكن يغيب الولد ساعة زمن أما خمس ساعات.. تصوري يا نعمة خمس ساعات. لا بد أنه صار له شي...!).
استبد بها القلق إلى حد أنها لم تتمالك نفسها من البكاء، ثم راحت تغلظ الأيمان بأنها سوف (تأكلني بأسنانها) حين أعود -كان هذا هو قسمها المفضل - ولكن المهم أن يعود أولاً..!
كانت المهمة التي خرجت من أجلها صبيحة ذلك اليوم ولم أعد حتى العشاء، هي شراء بطيخة أولاً. ثم أمر ببيت خالتي أطلب إليها موافاة أمي في الغد، كي تساعدها على صنع ((المفتول)). رأيت الباعة وراء أكياس البصل، واكداس من سلال العنب، وسلال التين، (وسحاحير) البندورة والفلفل والباذنجان، وأكوام البطيخ الأخضر، والأصفر .
وعلى الرغم من أن بضاعتهم جميعاً كانت بادية للعيان، ملفتة لكل الأنظار، وبوضوح تام، إلا أنهم كانوا يملأون المكان صياحاً بنداءاتهم، التي بدا لي أنه يغلب عليها طابع التضليل، فالكوسا تتحول - بقدرة قادر - إلى أصابع موز ريحاوي ..! و العنب إلى حبات ماس نادر، والبندورة إلى تفاح أمريكي أو شامي. مع أن أحداً لم يقل أن التفاح أكثر ضرورة من البندورة أو الخيار البلدي..!
جمهور كبير يتجمع تحت الجميزة العتيقة التي قيل أنها عاصرت (سيدنا عيسى) عليه السلام. كان ظلها يمتد على مساحة شاسعة من الأرض، أتخذ منها الباعة مكاناً لسوقهم. اقتربت من ذلك الجمع. أحدهم يتحدث منفعلاً. أخذ صوته يعلو ثم يعلو حتى تحول إلى صراخ، ما لبث أن أعقبه هياج بين الحاضرين، الذين انطلقوا بغتة متجهين جنوباً على طريق الاسفلت، وهم يرددون هتافات وشعارات تندد بالاستعمار، والانتداب، واليهود، والهجرة اليهودية، ووعد بلفور، والمستر (دل)، ولجنة (بل) ..! لم أشعر إلا وقد وجدتني بينهم، وسط سهل فسيح يمتد حتى الأفق. عندئذ فقط أدركت أننا مشينا طويلاً حتى بلغنا هذا المكان .
بدأ الخوف بنتابني. بيد أني أنشغلت عن خوفي حين رأيتهم يتعرضون لقافلة من الجمال، يوقفونها، ثم ينزلون حمولتها من سلال العنب، فيما صيحاتهم الغاضبة تتردد في جنبات السهل، أخذوا يدوسون محتويات السلال بالأقدام، في حين عمدت أنا وأمثالي من الغلمان إلى تخاطف عناقيد العنب الماسية، كحبات الكهرمان في السبحة التي كان يداعب جدي حباتها كلما أتى لزيارتنا...!
طفق أصحاب الجمال يتوسلون، مقسمين بانهم كانوا في طريقهم إلى قرية (اسدود)، وليس إلى مستعمرة يهودية كما حسبوا. ولكن الجمهور الغاضب واصل تحطيم السلال، دون أن يلقي بالاً إلى توسلاتهم. بل إن بعضهم راح يكيل لهم اللكمات والصفعات، مندداً بهم، متهماً إياهم بخيانة الوطن والقضية، ما داموا لم ينصاعوا لقرارات اللجنة الوطنية القاضية بالامتناع عن التعامل مع اليهود، منذ أوائل الثورة عام 1936. مذكِّرين إياهم بالإضراب العظيم الذي امتد شهوراً ستة آنذاك، وأن إنهاء الاضراب لا يعني العودة الآن إلى التعامل مع اليهود .
استغرق ذلك بعض الوقت. ولم أنتبه إلى حقيقة وضعي، وإلى مدى ابتعادي عن القرية، وأمي التي لا بد أنها أقامت الدنيا وأقعدتها إلا حين انتهت المعركة. أخذت أجيل بصري فيما حولي فلا أرى إلا سهولاً شاسعة ممتدة حتى الأفق في كل اتجاه، والشمس تسطع مرسلة شواظاً من نار، بعد أن انحدرت نحو المغيب، وطيوراً تحوم فوق رؤوسنا فرادى ورفوفاً، أو فوق عناقيد العنب المتناثرة على رقعة واسعة من الأرض، تنقض عليها ثم تطير محلقة في البعيد. خوف شديد يعتريني.. أين أنا ..؟ أين القرية؟ ما من أثر يبدو لها على مرمى البصر. وحشة قاتلة تكتنفني تماماً. وفجأة انتابني البكاء، لمحني أحدهم. اقترب مني. كان شاباً طويل القامة، مهدل الشعر، محتقن الوجه إثر الجهد الذي بذله مشاركاً في العملية التي تمت للتو. توسمت في عينيه عطفاً، وهو يربت على كتفي برفق قبل أن يسألني :
- مالك يا شاطر ..؟
قلت بلهفة و وجل :
أين نحن يا عم ؟
لا تخف.. نحن لسنا بعيدين جداً عن البلد. ولكن قل لي لماذا أتيت إلى هنا؟
- لا أعرف ..!
- لابأس.. لابأس.. سوف أوصلك إلى أهلك.. ابن من أنت ؟
- ابن سليم جابر .
- سليم جابر ..؟ رحمة الله عليه.. أعرف المرحوم والدك.. قتله الملاعين.. الله يجازيهم..
شعرت باطمئنان لذلك الشاب، وكأني نجوت من الهلاك.. بدت الشمس من بعيد أكثر اصفراراً فيما هي تنحدر نحو المغيب، حتى لامست أطراف الرمال الممتدة تلالاً وكثباناً في شريط يحاذي الأفق. ثم انكسرت حافة قرصها وهي تغوص إلى الأعماق، وبسرعة متلاحقة راحت تختفي إلى أن توارت تماماً، مخلفة في السماء شفقاً وردياً ما لبث أن استحال إلى دكنة خفيفة، ثم إلى ظلام يزحف على الكون، فيما كان صدري يزداد انقباضاً كلما تكاتف الظلام .
مضينا نغذ السير في جماعات متفرقة، والشاب لايني يحاول التسرية عني، إلى أن لاحت عن بعد أضواء خافتة، فبشرني صاحبي بأنها أضواء القرية.
كغريق تلامس الشاطئ قدماه، غمرني إحساس بالارتياح. رائحة أشجار البرتقال الأليفة، تعبق الجو من حولنا، في طريق خلال البيارات، وسياج أشجار الغيلان الذي بدا في الظلمة فاحماً .
الأضواء تكبر، رغم خفوتها، فيما نحن نقترب. معالم القرية تتبدى أكثر وضوحاً. بلغنا مشارفها حين تناهى إلينا صوت المؤذن لصلاة العشاء يتردد في الأرجاء جميعاً، موحياً إليَّ بالطمأنينة والسكينه ..، ومشيعاً في نفسي السلام . | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:05 | |
| - 7 -
رأت أمي - إثر تلك الحادثة التاريخية - أن تجد لي عملاً مناسباً، أقضي فيه ما تبقى من عطلة الصيف. وبعد جهد غير يسير، تمكنت من أن توفر لي ذلك العمل، بتوسط من الحاجة سكينة، لدى زوج شقيقتها أحمد الجمل، صاحب دكان الحلاقة قريباً من ساحة سوق الثلاثاء .
ابتهجت والدتي لنجاح مسعاها إذ كانت تأمل أن يتحقق لها، من وراء ذلك، هدف آخر، هو أن أكتسب (صنعة في اليد) تكون لي وللأسرة جميعاً (أماناً من الفقر) في مقبل الأيام ..! ولربما حالفني الحظ فغدوت حلاقاً مرموقاً. (وما ذلك على الله بكثير..!)
كان عملاً شيقاً لصبي مثلي. فعلي أن أكنس الدكان، وأرش الرصيف، ومساحة لابأس بها من الشارع أمام المحل، كل صباح وعند العصر، كيما يلطف الجو إذا ما هبت النسمات الغربية الآتية من البحر، عبر الكروم والرمال وبساتين البرتقال. ولاشيء - عدا ذلك - سوى مراقبة (العم أحمد) وهو منهمك في قص شعر زبون، أو تلطيخ وجه آخر بالصابون، فيما هو لا يكف عن الكلام أثناء ذلك. ولربما كلفني بطلب فنجان من القهوة أو كوب من الشاي الثقيل، للمعلم - وللزبون أحياناُ إذا كان يستحق ذلك - من مقهى عم ياسين (ابو داود) المجاور. وحين لا يكون لدي ما أعمله أجلس فوق ذلك الكرسي العتيق، ذي الصرير المثير، على الرصيف، أمام الدكان أرقب السابلة، والسيارات العابرة، مفاضلاً بين ألوانها، أو محاولاً تخمين ماركاتها، وهي تتجه جنوباً إلى المجدل، وغزة، أو شمالاً نحو يافا واللد والرملة، فيما يساورني شعور بالحسد إزاء ركابها الذين سوف يرون تلك البلاد. كان العم أحمد الجمل يباهي بأنه الأمهر وأنه لذلك يجمع ما يزيد على القنطار من القمح والذرة في كل موسم. إذ يتقاضى صاعاً أو أكثر حسب اريحية الزبون لقاء قيامه بالحلاقة للرجل الواحد وأولاده في العام هذا فضلاً عما يتقاضاه لقاء خلع ضرس لزبون، أو فصدجبين، أو أخذ (كاسات هوا) لآخر..! حتى الدواب يأتونه بها لكي يعالجها من أمراضها ..!
لم ألبث طويلاً حتى أكتسبت ثقة عم أحمد الجمل الحلاق الذي أخذ يكل إليَّ مهمة وضع الصابون على وجه الزبون، مؤكداً لي أن هذا الامتياز لم يمنح لصبي قبلي من أولئك الذين عملوا عنده، الأمر الذي كان يفعم قلبي - فضلاً عن قلب والدتي - غبطة وحبوراً. ابتهج لمرأى الصابون، وهو يشكل فقاعات شفافة أرقبها في شغف وهي تننتفخ ثم تنطفئ تماماً هنا وهناك على سطح وجه الرجل. بل إن طموحي أخذ يمتد إلى أبعد من ذلك. أن أغدو قادراً، في وقت ليس ببعيد، على القيام بتلك الحركات العديدة، التي أجمل ما فيها أنها لا لزوم لها البتة، فأطقطق بالمقص حول الرأس والعنق، وأجري النصل اللامع على وجه الرجل، دون أن أثخنه بالجراح تماماً كما يفعل العم أحمد الجمل، حتى دون أن يعيقه ذلك عن مواصلة الكلام طوال الوقت عن الانكليز والأفراح والمآتم وموسم البرتقال .
كان العم أحمد الحلاق يمنحني (شلناً) كاملاً كل أسبوع. وهو أمر آخر أعلن إزاءه أن أحداً غيري لم يحظ به من قبل. وفي يوم الثلاثاء تحديداً - وهو يوم السوق الأسبوعي لقريتنا وما جاورها - يدفع لي أجري، فأبادر للتو، وقبل عمل أي شيء آخر إلى شراء (شوكولاته بحليب) بتعريفة من دكان عثمان أبو حسين المجاورة. انصرفت في ذلك المساء قبل الغروب بقليل، نزولاً عند إرادة والدتي التي أوصت العم أحمد بألا يعمل على تأخيري إلى ما بعد حلول الظلام. عرجت في طريقي على ساحة سيدنا وهب المفضلة للعب في حيِّنا، والتي يقع في زاويتها الجنوبية ضريح ولي الله، محوطاً بسور من الحجارة المزينة بزخارف عربية قديمة. وتكتنف الساحة بيوت عتيقة ذات أقواس مشرعة. وأمام الأبواب مصاطب مرتفعة يتخذ منها أصحابها مجالس لهم منذ العصر إلى ما قبيل آذان العشاء. حيث يتبادلون الحديث عن شؤونهم من زواج، ومواليد، ومواسم زرع، غزارة الامطار أو شحها في ذلك العام، الحصاد وخصب المواسم، البرتقال وأوان قطفه، الثورة، والمهاجرين اليهود، ووعود الانكليز بحل القضية، الكتاب الأبيض واللجان البريطانية، والراديو ذلك الاختراع العجيب ..! إبان ذلك تدور عليهم فناجين القهوة المرة، و أكواب الشاي بالقرفة والزنجبيل، فيما صخب الصبية يرافق ذلك كله كإيقاع موسيقي لا ينقطع. لم يكن في الساحة غير عدد قليل من الغلمان، من بينهم (نعيم ابو جلالة) الذي ما إن رآني حتى انطلق يعدو نحوي هاتفاً:
- أين أنت يا أمين ..؟ حمداً لله على السلامة ..
فرحت بلقائه إذ اعتزمت أن أنقل إليه أنباء عملي لدى أحمد الحلاق، فقلت متباهياً :
- ها أنذا عائد للتو من الدكان ..
- وهل اصبحت حلاقاً ماهراً ؟
- طبعاً ..
- وتحلق للرجل ذقنه بالموس دون أن تجرحه ؟
- حتى دون أن أخدشه ..
- وهل تستطيع أن تقص لي شعري ..؟
- ولسانك أيضا ..!
ضحك، وانقض علي يضربني على صدري، ثم يجذبني من يدي، فنعدو معاً، وهو يقول :
- تعال، انظر ماذا صنعنا.. لقد أصبحنا من كبار المخترعين ..!
وحين اقتربنا من الرفاق، ألفيتهم متحلقين حول شيء وضعوه على الأرض والدخان يتصاعد من حوله. لقد قاموا فعلاً بصنع القاطرة البخارية، التي قررنا ذات مرة، أن نقوم بصنعها - على غرار ما قرأه أولئك الرفاق الذين يسبقوننا بصفين أو ثلاثة عن كيفية اكتشاف البخار - قائلين : ولماذا يكون هذا ال (جيمس واط) أذكى أو أبرع منا.. !؟) خامرني شعور بالأسف، إذ لم اشارك، منذ البداية، في هذا العمل الجليل ..! ساد الصمت حين رأينا العلبة المعدنية التي ملأوها ماء، وأحكموا إغلاقها، وثبتوا بها عدداً من العجلات الصغيرة، تأخذ في الاهتزاز، ثم تتحرك قليلاً، إلى الخلف وقليلاً إلى الأمام، وصوت الماء يغلي بداخلها، بفعل النار المتأججة من حولها. ارتسمت الفرحة على وجوه الأطفال والغلمان وتبادلت أعينهم النظرات القلقة المتسائلة، ولكن في سعادة طاغية. وفي اللحظة التي انطلقنا نهتف احتفالاً بالنجاح الذي تحقق، فها نحن قد تمكنا من صنع قاطرة حقيقية - تماماً كذلك الانكليزي اللعين - في تلك اللحظة تماماً دوى انفجار، وتطاير في الجو رذاذ الماء، ثم تساقط ليغمر وجوهنا، فيما تحول الهتاف إلى صيحات فزع واستنكار، ولعنات تنصب على رأس (جيمس واط) وآله أجمعين ..!
كنت أشعر بالحرج أمام رفاقي، إذ لم أكن قادراً على مجاراتهم. أولاد الهمص، اسماعيل العطار، أولاد الجمل، أهلهم أغنياء، يلبون لهم حاجاتهم. يرتدون ملابس جديدة في المناسبات، ولديهم أحذية جديدة أيضاً، وثياب مختلفة في ألوانها وأنواعها. كما أنهم لا يفتأون يشترون الشوكلاته والملبس من الدكاكين، أو يحضرونها معهم. كانوا يعرضون عليَّ شيئاً منها فأمتنع، حين أتذكر وصايا أمي. كانت تدعوني إلى الظهور أمامهم مكتفياً لا أفتقر إلى شيء، رغم أن ملابسي لا تكاد تتغير من بداية العام الدراسي حتى نهايته. وحين يبلى حذائي أصلحه عند الكندرجي (أبو مصطفى) بقرش .(يركِّب) للحذاء نصف نعل،. ثم يلمِّعه قبل أن يناولنيه مؤكداً لي أنه قد عــاد جـديداً ..! | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:06 | |
| - 8 -
في طريقي إلى البيت التقيت مريم عائدة من دكان البقال. تنحينا عن الطريق قليلاً، حيث وقفنا تحت شجرة النخيل القائمة عند ناصية الشارع. نسمات خريفية تداعب شعرها الأشقر، المرسل على كتفيها، يتماوج على جانبي وجهها الدقيق التقاطيع، فتعيده إلى الوراء بحركة رشيقة من جيدها، لا تكلُّف فيها، تضفي عليها مزيداً من الفتنة. أخذت تتلفت حولها في قلق ظاهر، فيما تضرج محياها الأبيض حمرة وردية، تثير في النفس حنيناً مبهماً نود معه عناق الكون. وحين سألتها لماذا لم أرها خلال الأيام القليلة الماضية، أجابت وابتسامتها الحلوة ترف على شفتيها، وتطل من عينيها الزرقاوين، قائلة بأن والدتها أخذت تضيق عليها الخناق مؤخراً، بحجة أنها لم تعد صغيرة، وأن عليها منذ الآن أن تكون اكثر تحفظاً مع أولاد الحي، كي لا تلوك الألسنة سمعتها..!
لم يدر بخلدي حتى تلك اللحظة سوى أننا أصدقاء.. أبناء جيران. للمرة الأولى تخطر لي أفكار حول الذكر والأنثى، في شخصي وشخصها. والفرق بين الولد و البنت، لم يكن سهلاً أن أقنعها باللقاء خلسة من حين لآخر. بل إنني لم أكن أرغب في ذلك. لم التخفي وكأننا نقترف خطيئة أو نرتكب ذنباً ..؟ ولكني أريد أن أراها، فلا تنقطع عني.. أن أتحدث إليها بغير موانع أو تحفظات. ومن ذا الذي له الحق في أن يحرمنا لقاء اتنا البريئة.. بل لماذا تفكر الأم بهذه الطريقة السخيفة ..؟
ودَّعت مريم وانصرفت واجماً، أفكر فيما سمعت منها .
دخلت المنزل فألفيت جدي و أحد أخوالي وابن عم لأمي يجلسون على مراتب فوق حصير من القش، مما يوحي بقدر من الحفاوة أبدته أمي حيالهم. وإبريق من الشاي أمامهم وأكواب فارغة، وصحن امتلأ بأعقاب السجاير، فيما كان جدي يلف واحدة جديدة منها ببراعة كنت دوماً أغبطه عليها. ما إن لمحت وجه والدتي الممتقع حتى أدركت لفوري أن هناك أمراً غير سار، وغير عادي أيضاً، يجتمعون من أجله. ازداد شعوري بالانقباض. ساد الصمت لحظات، ريثما سلمت عليهم، فيما هم يرددون واحداً إثر الآخر :
الله يرضى عليك.. ما شاء الله.. أصبحت شاباً.. من خلَّف ما مات..
ثم استأنفوا حديثهم دون أن يكترثوا كثيراً لحضوري بعد ذلك .
صعقني، بادئ الأمر، قول الخال مواصلاً حديثاً كان قطعه دخولي غير المنتظر :
- صبية ترَّملت، لا بد لها أن تتزوج.. حتى لو كان لديها أولاد.. ليس الأولاد بالشيء المهم. وإنما المهم هو الشرف.. السمعة.. القيل و القال.. كلام الناس يا أختي ..!
وسرعان ما أمَّن على قوله هذا ابن عمها بحماس :
- صبية لم تبلغ الثلاثين.. لا يصح ولا يجوز أن تظل بغير زواج ..!
أضاف الخال :
- بل ماذا سيحدث للأولاد؟ ليبقوا مع أمهم أو ليتكفل بهم أي واحد من أهلهم..!
تذكرت مريم وما نقلته إلي عن أمها.. ازددت أسى.. قال جدي بوقاره المعهود :
- الستر هو المهم يا ابنتي ..!
أعقب ذلك صمت ثقيل، مبعثه كلمات جدي التي لا بد من شيء من الصمت إثرها كي يتم استيعابها. إلى أن قطع ذلك الصمت خالي الذي بدا متحمساً للفكرة، مصراً عليها فقال في زهو من يلقي بحكمة نادرة، موجهاً كلامه إليها :
- حتى لو كنت في طهارة بنات النبي، فالناس سوف يتكلمون يا أم سعيد..!
ردت أمي على الفور بحنق وألم واضحين، إذ هي تستطيع الرد عليه هو.. أما والدها فلا، احتراماً له وتوقيراً ..
- يتكلمون عن ماذا يا رمضان ..؟
قال خالي وقد أربكته المفاجأة بعض الشيء :
- عن أي شيء.. ليس ضرورياً أن يكون هناك ما يتكلم عنه الناس بالفعل.. هم يتكلمون والسلام..!
- إذن فيم يهمنا كلامهم (مادام كلام والسلام .؟)
- ما شاء الله.. ما شاء الله.. ما الذي يهمنا إذن ..؟
تدخل جدي :
- يا ابنتي.. هداك الله.. نحن لا نحب لك إلا الخير.. ولا نعرض عليك إلا ما هو في مصلحتك ..!
ردت ساخطة :
- هل مصلحتي هي أن أدع أولادي يعيشون يتماً مزدوجاً ؟
حاول الجد أن يحافظ على هدوئه، وهو يعود للقول ؟
- الأولاد يا ابنتي يعيشون كما يعيش غيرهم. الأولاد، شأنهم شأن المخلوقات الأخرى، من الحشرة حتى الأنسان، كلها تعيش بفضل الله وعونه .!. ها نحن قد زوجنا شقيقتك نعمة بعد مقتل زوجها، هي الأخرى، على أيدي هؤلاء الأوغاد، فماذا جرى لأولادها؟ هل ماتوا مثلاً ..!؟ أولئك هم يعيشون في أمان الله ..!
هزت أمي رأسها وأطرقت تهمس في ألم، كمن تحدث نفسها :
- ماذا جرى لهم؟ لم يموتوا حقاً.. وهكذا يكفي ..!
وتدخل ابن عمها مشجعاً :
- ونحن، سوف نعمل على أن يبقى الأولاد معك يا ابنة العم، فماذا بربك تريدين أكثر من ذلك ..!؟ ويساعدك ذلك أيضاً على هذا الحمل الثقيل. بيقول المثل (الحمل اذا توزع بينشال) ..!
استبدت بي مشاعر الأسى والضياع. لو كان سعيد حاضراً لتمكنا معاً أن نقول شيئاً، أي شيء نشد به أزر المسكينة، التي بدا عليها من الجزع والألم ما لم اشهد عليها مثله إلا يوم مصرع أبي. أحسست بغير قليل من الحقد على جدي، و أخوالي جميعاً، لاسيما ابن عمها هذا. إنهم يعملون على انتزاعها منا؟ لماذا يريدون أن يدمروا حياتنا.. لم لا يتركوننا وشأننا.. ما لهم ومالنا ألا يكفينا ما أصابنا ..! تنبهت إلى حركة جدي وهو ينهض متثاقلاً ممسكاً بعصاه التي يتوكأ عليها - ولكم سرني ذلك - فيما يهم الآخران بالوقوف :
- سوف نتركك يا ابنتي تفكرين في الأمر الليلة ونهار الغد.. وعلى بركة الله ..
قال الآخران معاً، وهما ينحنيان لالتقاط حذاءيهما :
- الله يجيب اللي فيه الخير.. آمين ..
لم تذق طعم النوم في تلك الليلة. حاولت جاهدة أن تتمالك نفسها، أول الأمر، وأن تتظاهر بالهدوء وعدم الاكتراث، كيلا تثير فزعنا، إلا انها أخفقت في اخفاء مشاعرها كل الوقت .
كان الذي عرض عليها يعني شيئاً واحداً. كارثة محققة تحيق بهذا البيت. فاذا ما تم الزواج المقترح، فما الذي سيحدث لهم. هل يبقون معها كما يقولون ..؟ وفي هذه الحال كيف ستكون معاملة (العم) لهم : هل سيعاملهم بالمودة والحسنى؟ ومن ناحيتهم هم، هل سيبادلونه المودة، اللهم إن وجدت لديه؟ واذا ما حدث العكس، فلم يرتح إليهم ولا هم اطمأنوا إليه، بل ربما كان قاسياً عليهم. فماذا سيكون الحال عندئذ، وهي لا تملك من أمرها شيئاً ..؟ أين يذهبون إذا ما ساءت العلاقات بين الزوج والأبناء؟ ومن يقوم على تربيتهم ورعايتهم؟ الضياع مصيرهم. وأهلي هؤلاء ماذا سيفعلون ؟.. ينسونهم.. وهذه هي الدنيا (كل مين يارب أسألك نفسي)..! .
تلوذ بالبكاء في صمت.. والليل يمضي بطيئاً رتيباً. ترنو إليهم، ينامون في وداعة الواحد إلى جوار الآخر (لا يدركون ماذا تخبئ لهم الأيام).. تتراقص على أجسادهم الغضة، وعلى جدران الغرفة الشاحبة ظلال ضوء السراج المتأرجحة التي تزيدها وحشة وحزناً. تذكرته.. الرصاصات الغادرة.. والأيام الخالية في رعايته وتحت جناحه. غمغمت والدموع تنساب على وجنتيها :
.. إلهي.. ألم يكف الأقدار ما صنعت بنا حتى الآن ...؟ | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| |
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:07 | |
| - 10 -
كان عسيراً علينا أن نفهم لماذا يجب أن يقتل آباؤنا وأحباؤنا على أيدي الانكليز. أن يتيتم الأطفال وترمل النساء، أن تدمر المباني، وتحرق المزارع والحقول، فيعم الخراب، وينتشر الحزن في كل مكان ..! ثم من هم هؤلاء؟ ما سبب عدائهم لنا؟ من أين أتوا ..؟
قرأنا في مقرر الجغرافيا أنهم جاؤا من جزر نائية، وراء البحار، على مبعدة آلاف الأميال من ديارنا، وأن بلادهم تلك، باردة ماطرة طوال العام.. وو.. إذن مالنا وما لهم؟ ولماذا وبأي حق يصرون على اقتحام حياتنا، هكذا عنوة واقتداراً وتطفلاً؟
هل مجرد كونهم (انكليزاً) ومحض كوننا (عرباً) يمكن أن يكون سبباً وجيهاً لهذا العدوان؟ أم ترى مبعث ذلك اختلاف ألواننا؟ أم لأنهم يتكلمون تلك الرطائة العجيبة التي لا تفهم ..؟
ويجيب أهلنا على تساؤلاتنا الكثيرة الحائرة، بأنها الثورة. وكأن هذه الأجابة المقتضبة تكفي لأن نفهم كل شيء، أو تفسِّر لنا أياً من تلك التساؤلات. بيد أن هذه الأحداث أمست جزءاً من حياتنا اليومية، فأصبحت من ثم، تحظى بغير قليل من اهتمامنا، بل وتشكل هماً حقيقياً لنا، فباتت شغلنا الشاغل. فما أن نلتقي في الفسحة، بين الدروس أو في الملعب، أو في الطريق حتى نبادر إلى تداول الحكايا عن بطولات ثوارنا الخارقة التي كنا نسمع عنها. ثم غدونا ننقسم إلى جماعات تتحزب كل منها لواحد من قادة الثورة البارزين، مضفية عليه هالات من البطولة، ناسجة حوله فيضاً من الأساطير والخوارق، تفاخر به الجماعات الأخرى، لكأنما تلك البطولات من صنعها هي ..!
نسمع عن فوزي القاوقجي :
صهيوني دبر حالك /نفدوا الثوار../ معهم فوزي القاوقجي / بطل الأحرار..
الشيخ عز الدين القسام أبو الثورة الأول القادم من سوريا ليستشهد في أحراش يعبد .وهو الذي عمل على قيام الثورة عام 1936، وكان جهاده نبراساً للثوار والأحرار.
القائد حسن سلامة.. عبد الرحيم الحاج محمد - أبو كمال -.. عبد القادر الحسيني.. الحاج أمين الحسيني :
حاج أمين يا منصور..! بسيفك هدينا السور ... (حتى دون أن ندري عن أي سور يتحدثون. !! سيف الدين الحاج أمين ..!
كنت من أنصار القائد عبد الرحيم. منذ ذلك اليوم الذي سمعت فيه أن هذا القائد يملك قدرات خارقة على مجابهة الانكليز، والإفلات من شراكهم وكمائنهم، ثم الظهور بغتة في أي مكان ليهاجم دورية، أوينسف مركزاً للبوليس، ويختفي بعد ذلك، في طرفة عين، ليظهر من جديد في مكان آخر.. وأن أعماله هذه قد أعيت قوات الاحتلال حتى أنها كرست عدداً غفيراً من جنودها، كما رصدت مبالغ طائلة من أجل القاء القبض عليه حياً أو ميتاً ..!
أرسم له في مخيلتي صورة مثالية تتناسب وما أكنُّ له من إعجاب و إكبار. ولم يكن رفاقي أقل حماسة في تصوراتهم عن أبطالهم المفضلين. وكم تمنى واحدنا لو يشب عن الطوق فجأة ليغدو واحداً من هؤلاء كي يصبح ذكره - مثلهم - على كل لسان ...!
اتفقت مع الرفاق على التوجه بأسئلتنا هذه إلى أحد معلمينا. وقع اختيارنا على الأستاذ (عبد الخالق) مدير المدرسة. فهو خير من يمكن أن يستمع إلينا بسعة صدر، خلافاً للشيخ (محمد أبو العينين) العابس مكفهر الوجه على الدوام، أو الأستاذ (أبو مهدي) الذي يعتقد أننا صغار.. (عفاريت) لا نستحق عناء الحديث إلينا في قضايا كهذه ..!
قرع جرس الصباح. انتظمنا صفوفاً أمام بناء المدرسة، ومن خلفنا حديقتها الحافلة بالأشجار والأزهار. الأرض مفروشة بالرمل الأصفر، وحصى مجلوب من الشاطئ، مصقول أملس. أشجار الكينا العالية والسرو والصنوبر تحيط بالمدرسة من شتى أرجائها، يسمع حفيفها الهادئ فيدخل إلى نفوسنا البهجة والطمأنينة منذ بداية النهار. أشار الأستاذ للصفوف، فشرعنا ننشد :
بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمن/ إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا / ولا دين يفرقنا / لسان الضاد يجمعنا / بغسان وعدنان
كف الأولاد عن صخبهم فور دخول الأستاذ عبد الخالق. ساد الصمت. قبع الجميع في أماكنهم، إذ كان أستاذنا هذا يخطرنا بأنه إذا ما دخل غرفة الصف، فيجب أن يسمع صوت الأبرة إذا ما وقعت على الأرض ...! بادر نعيم إلى رفع يده، حين كان الأستاذ عبد الخالق يتفحص دفاتر وأوراقاً بين يديه. تنبه له بعد لأي. تساءل في غير أكتراث :
-ماذا يا نعيم ..؟
قال هذا مرتبكاً :
- أستاذ.. سؤال من فضلك ..
- تفضل.. هات ما عندك ..يا فتَّاح يا عليم.. !
- سؤال عن الانكليز.. أعني الثورة
وجم الأستاذ برهة. ثم قال، وعلامات الدهشة بادية على وجهه النحيل، وفي عينيه الضيقتين الحادتين كعيني صقر:
- ماذا تقصد يا ولد ..؟ مالك أنت والثورة ..؟
- نريد أن نفهم لماذا يقتل الانكليز أهلنا؟ لماذا يعتدون علينا؟ هؤلاء الذين استشهدوا بالأمس.. وهذه المباني التي نسفوها.. لماذا يفعلون هذا بنا ؟
ثقل الصمت إلا من صوت حفيف الأشجار عبر النوافذ، فيما أخذ الأستاذ عبد الخالق يذرع الغرفة، جيئة وذهاباً، ويداه معقودتان وراء ظهره، تماماً كما كان يفعل نابليون قبيل دخول المعركة (هكذا قيل لنا أنه كان يفعل)..!
بعد لحظات سادها الترقب المشحون بالتوتر، اتجه الاستاذ إلى باب الغرفة فأغلقه، ثم عاد ليقف بمحاذاة أول صف من المقاعد. بدا عليه اهتمام غير عادي، يوحي بأن ما يعتزم قوله شيء ليس من قبيل (الثور الأسود الذي أُكل يوم أكل الثور الأبيض)، أو الثعلب الذي احتال على الحمار فأكله في قلب الغابة.. لأنه حمار ..! أو ليلى التي أكل الذئب جدتها ..! قال بصوت خفيض النبرات :
.. ما سأقوله لكم يا أبنائي، يجب عليكم أن تعوه جيداً. وليكن هذا هو موضوع درسنا اليوم. لكنه درس للحفظ في قلوبكم. امتحانكم فيه عندما تصبحون شباناً. والممتحن آنذاك هو الوطن.. فلسطين أمكم ..!
نظر بعضنا إلى بعض في دهشة ممزوجة بغير قليل من الخيلاء. تخيلنا للحظات أننا سنصبح ثواراً.. نحمل البنادق.. نتبادل المطاردة مع جنود الاحتلال من الانكليز. أعادتنا إلى الانتباه متابعة الأستاذ لكلامه بعد هنيهة صمت :
- الانكليز احتلوا بلادنا منذ نيِّف وعشرين سنة... غايتهم الاساسية من وراء ذلك أن يجلبوا إليها يهوداً من وراء البحار.. من كل أرجاء الدنيا ..
هب أحد التلاميذ ليسأل :
- ولكن لماذا يترك هؤلاء بلادهم ويأتون إلى بلادنا نحن ؟
أجاب الأستاذ موضحاً :
- يريدون أن يقيموا لأنفسهم ((وطناً قومياً)) يجتمع فيه يهود العالم. هذا ما وعدهم به وزير بريطاني اسمه ((آرثر بلفور)) في أوائل عهد الاحتلال، وبالتحديد في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 أي قبل أن تخلقوا أنتم بزمن طويل. أي أنه قرر مصيركم حتى قبل أن تولدوا هل تفهمون؟ ويبدو أن ذلك كان أكبر من أن تستطيع فهمه مداركنا، فهب تلميذ آخر لكي يسأل :
- ومن هو بلفور هذا حتى يعدهم بذلك ..؟ وهل يملك هذا البلفور البريطاني أرضنا حتى يهبهم إياها وهو القاطن في تلك الجزر النائية ..؟
قال الأستاذ عبد الخالق مبتهجاً لهذا الوعي المبكر في تلاميذه النجباء ..!
هاه.. من أجل هذا قامت الثورات
تشجع تلميذ آخر، فقال :
- لكن لماذا بلادنا بالذات ..؟
- لأنهم يزعمون بأنها أرضهم الموعودة .
- وما معنى الموعودة يا أستاذ؟ وممن ؟
- يزعمون أيضاً أنهم أقاموا في هذه الديار قبل آلاف السنين، وأنه كانت لهم فيها دولة، اندثرت فيما بعد. وأن كتابهم - التوراة - يعدهم بالعودة إليها، ولو في آخر الزمان أي في هذه الأيام..! ليقيموا دولتهم من جديد ..!
- ونحن أصحاب البلاد ،الحقيقيين.. منذ آلاف السنين حتى الآن، كما شرح لنا أستاذ التاريخ. ما شأننا ؟
- يبدو أن أحداً لم يفكر في ذلك يا بني .
- ولكن من يعترف اليوم بملكية أحد لشيء قبل آلاف السنين ..!
- من أين تأتي بهذا الكلام الكبير يا ولد ؟
- في السرادق - يوم الشهداء - هكذا سمعناهم يقولون .
- حسناً.. حسناً.. هو أمر مضحك بالفعل يا أبنائي.. ولكن حتى الأمور المضحكة تصبح جدية حين تدعمها القوة. حاول الانكليز واليهود معاً أن يفرضوا علينا هذا المنطق وهذا الواقع بالقوة التي يملكونها. ونحن، من ناحيتنا نرفض ذلك ونثور عليه. ها نحن نطالب الانكليز بالجلاء عن بلادنا وبالاستقلال والحرية لشعبنا. قال أحد التلاميذ، إذ تحول الحديث إلى حوار ودي بيننا وبين أستاذنا :
- ولماذا يساعد الانكليز اليهود ضدنا، مع أننا نحن الذين على حق ..؟
- هذا لو كانوا قضاة يا بني.. لكنهم ليسوا قضاة.. الانكليز واليهود متفقون على عداوتنا لأسباب تاريخية، لا أريد الخوض فيها الآن. أذكركِّم فقط بشيء منها. قرأتم في دروس التاريخ عن الحروب الصليبية.. أليس كذلك؟ ليس هذا وقته على أية حال .
نظر إلى الساعة في معصمه، ثم أردف قائلاً :
-.. ولكني أكتفي بالقول الآن، لكي تكتمل الصورة في أذهانكم، بأن لكلا الطرفين أطماع في ثروات بلادنا، كما في موقعها الجغرافي. وستعرفون هذا في المستقبل أيضاً، في الصفوف الأعلى .
صمت من جديد برهة من الوقت، ثم قال، وهو يركز بصره علينا:
- لا تنسوا درسكم هذا. تذكروه دائماً إلى أن تكبروا وتصبحوا بدوركم ثواراً ..!
غادرنا قاعة الصف.. انطلقنا إلى بيوتنا، بمرح وحماسة نردد في الطرقات:
نحن الشباب لنا الغد / ومجده المخلد / نحن الشباب .. | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:10 | |
| - 12 -
لبثت زمناً طويلاً أحسب أن يوم " الجمعة الحزينة " هو ذلك اليوم الذي جيء فيه إلى القرية بجثمان عبد السحوة. في ناحية من القرية خيم الوجوم وساد صمت حزين. وفي مكان آخر منها انفجر غضب عارم، وقامت مظاهرة. وفي السوق أغلقت الحوانيت. وفي المسجد أقيمت الصلاة على روح الشهيد، وقام الخطباء ينددون بالانكليز، فكان يوماً مشهوداً. سيارة خضراء مغلقة اخترقت الشارع، وانعطفت إلى الزقاق المؤدي إلى بيت السحوة، ثم توقفت أمام المنزل تماماً. صمت هدير محركها بعد أن عبق الجو بدخان قاتم، ورائحة (بنزين) خانقة. وجهاء القرية ومخاتيرها وقفوا قريباً من الباب. النساء على النوافذ وأبواب الدور. الصبية ملاوا الطرقات والزقاق في فضول مشوب بالخوف.
فتح باب السيارة الخلفي، وأنزل تأبوت حمله الرجال إلى داخل الدار، فانطلقت زغرودة من حنجرة ممزقة، اقشعرت لها الأبدان. أعولت النساء، وتهدجت أصوات الرجال، والتمع الغضب في عيونهم.
.. لقد فعلها الطغاة إذاً.. شهيدٌ آخر في قافلة الشهداء ..
.. شنق الرجل من أجل رصاصة فارغة.. يهودي واحد لم يشنق رغم أكداس السلاح التي بحوزتهم ..!
خرج النعش، بعد فترة لم تطل كثيراً، على أكتاف الرجال. تكوَّن للتو موكب يمشي وراءه في صمت مهيب. فيما انطلقت أصوات النساء، فكانت مزيجاً من العويل والزغاريد والصرخات المخنوقة. واحدة تبتهل إلى الله بأن (ينكب الانكليز). أخرى تنعي موت الفقيد في عز الشباب، وخضرة تندب (جملها) و(أبو اولادها..!). الموكب يمضي عبر شوارع القرية غرباً باتجاه المقبرة. الغبار يتصاعد فيخنق الأنفاس. العرق يغسل الوجوه المحتقنة. حتى الصغار كفوا عن تساؤلاتهم.. وكأنهم بعرفون كل شيء، او لا يعرفون أي شيء. كومة أنقاض المباني التي نسفت ما برحت في مكانها، زاد مرآها الناس سخطاً. كل شيء يذكرهم بالانكليز. "هذا بلاء عام ..! من أين جاء..؟ لماذا نحن بالذات دون سائر خلق الله؟ ولماذا بلادنا بالذات، دون غيرها، مطمع الطامعين..؟"
تمكنت من التسلل بين القبور، ومن خلال ذلك العدد الهائل من الناس إلى أقرب مكان من الحفرة. رجلان يحملان الجثمان، ملفوفاً بالعلم، ثم ينزلانه إلى تلك الحفرة المخيفة.. القبر ..!
يا إلهي هل يمكن أن يكون هذا المكان مقراً دائماً للعم عبد السحوة منذ الآن؟ هل معنى هذا أننا لن نراه يمر أمام بيتنا بعد اليوم.. كأبي.. أبي يقيم الآن في ظلام كهذا مخيف.. لا يأكل.. لا يشرب.. لا يرى اولاده.. هنا يبقى في الليل والنهار.. في الصيف.. وفي الشتاء.. منذ الآن وعلى مدى الزمان.. كل ذلك يا عم عبد من أجل رصاصة فارغة.. ويا أبي من أجل لا شيء على الاطلاق..! ألا يملون الرقاد هنا؟ ألا يخافون العتمة؟ ألا يشتاقون لنا ؟
- إذا ما جاءك الملكان، ثم سألاك.. قل لهما ...
أي ملكين سيسألانه ..؟ كيف ..؟ وداخل القبر ..؟
صفٌّ من الرجال وقفوا قرب القبر، بعد أن رشَّ بالماء، وغرست للتو في تربته الهشة أزهار وسعف نخيل. الناس يمّرون بهم الهوينا، يصافحونهم واحداً واحداً، في صمت مطبق. وعندما هم الجميع بالانصراف، وقفت على مقربة مجموعة من الفتيان، أخذت تنشد في نغم حزين، تلقائياً، ودون أن يطلب إليهم أحد ذلك :
يا ظلام السجن خيم / إننا نهوى الظلاما /
ليس بعد الليل إلا / فجر مجد يتسامى .
أقيم سرادق كبير في ساحة سيدنا وهب. علقت بداخله وخارجه أعداد من المصابيح - اللوكس - أضاءت أرجاء الساحة بنور باهر، أثار في نفوسنا، نحن الصغار، فرحاً غامراً، بدد الحزن من نفوسنا. بسطت الحصر، وجلس الناس على فرش من فوقها يستمعون إلى المقرئ الضرير الذي جيء به من يافا. شجيُّ الصوت، حزين النبرات. تسمع عند كل مقطع يقف عنده الشيخ، آهات الاستحسان لجمال الصوت، أو لجلال المعنى، مصحوبة بغمغمات تدعو للفقيد، وتترحم عليه، طالبة من المولى، عز وجل، أن يسكنه فسيح جناته، فالشهداء (أحياء عند ربهم يرزقون).
كان ذلك، بالنسبة لنا، مهرجاناً مسلياً، على الرغم من كل شيء : نلعب على مقربة من السرادق.. نعدو.. نتشاجر. وربما نغني، ناسين الجو المكفهر المحيط بنا، مما يضطر بعضهم إلى انتهارنا، كيما نكف عن عبثنا الذي يفسد عليهم متعة الحزن والتفجع ..! ويدور أحدهم بفناجين القهوة، يصب قطرات من إبريق نحاسي عتيق لا تزيد على رشفة واحدة، سرعان ما تتلاشى بين شفتي الشارب، ثم يعيد هذا الفنجان مشفوعاً بحركة من يده متفق عليها عرفاً، تعني الأعادة أو الأكتفاء .
وفي ركن قصي من السرادق جلس (محمد طه النجار) ومن حوله عدد من رجاله، مكفهر الوجه، مقطب الجبين، لايني عن إلقاء نظراته الحادة هنا وهناك. شارباه معقوفان عند طرفيهما، مدببان كذيل عقرب. يعتمر كوفية وعقالاً , متسربلاً بعباءة سوداء، تخفي تحتها البندقية والحزام الجلدي المحيط بخصره الممتلئ بالرصاص (السلحلك)، فضلاً عن خنجر على جانبه الأيمن .
.. هذا هو الرجل الذي وضعوا مكافأة لمن يساعدهم على اعتقاله.. بل لمن يمكن أن يغتاله..!
كان فرحنا - أنا و نعيم وحامد السلال وآخرون من رفاقنا - لا حدود له. فلقد اتيح لنا أخيراً أن نرى أحد رجال الثورة البارزين، بسلاحه الكامل.. ها هو ذا أمامنا كما لو كنا نراه راي العين، يطارد الانكليز ويطاردونه.. يقتحم المستعمرات اليهودية مع رجاله ...!
في ظهيرة اليوم الثالث لعزاء (عبده السحوة)، عبرت سماء القرية طائرة منخفضة القت بكميات من المناشير تطايرت في كل الاتجاهات ،لم يأبه لها أحد من الكبار. ولكننا انطلقنا، وكنا قد خرجنا لتونا من المدرسة، نلتقطها، أو نختطفها وهي تتهادى قبل أن تبلغ الأرض. ربما فرحاً بألوانها المثيرة. قرأت في واحدة منها :
".. من الذي يخسر بسبب الأعمال الخارجة على القانون الآن؟ إن الرجل الغني يعيش مرتاحاً في المدينة. هو لا يعرِّض أسباب معيشته للخطر، ولكنه يطلب إلى الرجل الفقير أن يفعل ذلك. إن الذي يخسر هو ذلك التاجر الصغير الذي أجبر على إغلاق دكانه. الذي تتلف بضاعته. هو ذلك الفلاح الذي لا يبيع محصوله في السوق. أليس صحيحاً أن الرجل الفقير هو الذي يخسر دائماً؟ ومع ذلك فإن هذه الأعمال لا طائل تحتها. إنكم لن تجنوا شيئاً من ورائها. فهي إنما تسبب المتاعب لكم ولقريتكم.. الزموا الهدوء والسكينة فذلك خير لكم .."
وفي منشور آخر :
"... إن قادة عصاباتكم، أمثال القاوقجي وعبد القادر الحسيني، وأبو درة، وحسن سلامة، وعبد الرحيم، لم يجلبوا لكم سوى الخراب.. فتخلوا عنهم ..."
قبيل الغروب بقليل من ذلك اليوم جيء بقصاع الطعام، فمدت اعداد وفيرة منها داخل السرادق وخارجه، على امتداد الساحة، كي يتسنى للجميع أن ينالوا نصيبهم منها. عبق الجو برائحة المفتول، واللحم، ومرق البصل ،والقرع. تحلق عدد من الرجال حول كل قصعة (باطية). وإذا ما اقترب منهم أحد الصغار أفسحوا له مكاناً، أو صرفوه عنهم ليجلس مع أمثاله، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أتوا على ما في القصاع. وأخذ الناس يتفرقون، فيما عمد بعضهم إلى رفع الآنية الخاوية، تمهيداً لما بعد الغروب، حيث يقدم الناس إسهامهم العيني لأهل الفقيد. تأتي النساء وفوق رؤوسهن صواني ملأى بالأرز الجاف، مغروساً في وسطه قالب كبير أو اكثر من السكر، هرمي الشكل ملفوفاً بورق أزرق فضلاً عما يحمل الرجال من قراطيس ملأى بالشاي و البن. أما الموسرون، والأكثر قربى من تلك الأسرة، فيجلبون خروفاً، تماماً كما يفعلون في مناسبات الأفراح .
حين عدت ظهيرة اليوم التالي من المدرسة، ألفيت السرادق قد أزيل من مكانه، وليس في ذلك المكان سوى مخلفات من الورق والمسامير والقش والرماد. وغلمان يلعبون اتخذوا من تلك المخلفات أدوات للعبهم، كرات يتقاذفونها بأقدامهم، بعد أن وضعوا حقائبهم، وكتبهم أرضاً، والهواء يعصف بأوراقها. صخبهم يملأ المكان. لقد عاد كل شيء إلى ما كان عليه قبل أيام .
طرقت سمعي، حين عدت إلى دارنا، أصوات بكاء، ورأيت من خلال البوابة، المفتوحة على فناء دار السحوة، بعض النسوة بثيابهن السوداء الخالية من التطريز. وعلى رأسهن الحاجة أم سايحة والخالة خضرة .
دلفت إلى منزلنا فألفيت والدتي مطرقة يرتسم على محياها وجوم حزين.. قبلت يدها.. ضمتني إليها.. وانخرطت في بكاء صامت رغماً عنها . | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:10 | |
| - 13 -
أذن المؤذن للعشاء، وسعيد لم يعد إلى المنزل بعد. وآذان العشاء - لا سيما في تلك الأيام - إيذان للناس بانقضاء الحد الأقصى للسهر في أمسيتهم تلك. من ثم، كان على الذين لم يؤبوا إلى بيوتهم حتى تلك اللحظة أن يفعلوا ذلك قبل أن يوغل الليل .
أما بالنسبة لأمي فقد كان الآذان، بمواقيته الخمس، هو التوقيت الذي تعتمد عليه في تنظيم شؤون حياتها اليومية، خاصة بعد أن باعت المنبه الذي لحق بأشياء أخرى باعتها على التوالي، منذ ألمت بنا الفاجعة، لتغطية النفقات الضرورية : حذاء لعلياء، شورت لأمين، حسب تعليمات معلم الرياضة، دفاتر وأقلام. المهم ألا يعلم أحد بمدى الفاقة التي نعاني .
حين تذكرَّتْ أن أخي سعيد قد تأخر، نقَّلت بصرها بيننا وبين موقد النار، تتوهج في أطرافه جمرات يغشى جوانبها رماد رقيق. وفي ركن منه إبريق معدني أزرق يتعالى البخار من فوهته مشبعاً برائحة الشاي والميرمية، شرابنا المفضل ..!
.. أتراه قد تأخر بسبب العمل عند (أبو درويش)؟ إذا كان الأمر كذلك فهو هيِّن. لقد بات قلبها شديد التوجس في هذه الأيام. خطر لها أن ترسلني في اثره مستطلعاً. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة قد راقتها إلا أنها لم تطمئن إليها كثيراً، إذ هي بنفس القدر تخشى عليَّ من مكروه يصيبني في ذهابي أو إيابي. زادها توتراً وميض برق لمع في تلك اللحظة مخترقاً شقوق الباب والنافذة، تلاه هدير رعد ترددت اصداؤه في الأفق، وبدأت زخات المطر تقرع السقف والنوافذ. السقف يدلف من جديد. قامت لتضع عدداً من الاواني في الأماكن التي ينساب منها المطر. القطرات المتساقطة تطرق هنا وهناك مرسلة أصواتاً رتيبة مقلقة. شعرت بالحنق يملأ جوانحها. كم من مرة أوصيته - ذلك اللعين - بألا يتأخر عن أذان العشاء. (إنه لا يسمع لي كلاماً منذ وفاة ابيه.. الله يرضى عليك يا أمين ..!
الليل يتوغل، والظلام يتكاثف، والدوريات تبدأ جولاتها عما قليل، ولن يمنعها هذا الجو العاصف. لربما صادفته إحداها.. يا مصيبتي عندئذ ..! تسمع وقع أقدامهم كل ليلة، تسبقهم صيحاتهم المعربدة ورطانتهم المثيرة للفزع. وجدت نفسها تقول بعد تردد :
- قم يا بني.. اسأل عن أخيك عند (أبو درويش) لنشرب الشاي معاً حين تعودان. تحركت في غير حماسة، وقد سرت عدوى خوفها إلى نفسي، فالخوف، كالوباء تماماً، ينتقل بالعدوى. لكنه كان خوفاً من نوع آخر. إنه الخوف من الظلام.. والعفاريت ..!
المطر ينهمر.. الرعد يقصف.. تصفر الريح..وتتمايل الأشجار.جاء المطر مبكراً جداً هذا العام.
قفزت إلى مخيلتي، على الفور أحداث قصص الخالة خضرة، وأشباح القتلى أضحت كثيرة في هذه الأيام.. ربما في كل شارع.. ولا بد أن واحداً منها سوف يلقاني ..! أخرجتني من تصوراتي حركة أمي، وهي تنهض، وتمد يدها إلى السراج، تتناوله في رفق، محاذرة أن ينطفئ. ثم تمضي معي إلى باب الدار. تفتحه قليلاً بالقدر الذي يكفي لمروري، ولتسرب حزمة من الضوء تنير قليلاً باحة الدار. لم يبدد ذلك شيئاً من مخاوفي، إذ كانت باحة دارنا بالذات هي أكثر مكان أخافه. لا سيما تلك الزاوية التي يقع فيها الكهف الكفري المهجور، والذي لم يكن أحد يعرف كنهه أو ماهيته، وإن كانوا - الأهل والجوار - يجمعون على أنه مكان مرصود، وأنه السكن المفضل لعدد من الجان المغرمين بمداعبتنا، نحن - الأنس - وإقامة علاقات ودية.. وربما غرامية بين بعض منا وبينهم ..!
انطلقت في الطريق المتعرج، بحفره ونتوءاته. حالك الظلمة، خالٍ من السابلة تماماً. تلفت في اتجاهات مختلفة.. في المنعطفات.. عند مداخل البيوت الموحشة.. أتلمس شيئاً من الطمأنينة في ومضة شعاع، أو نبرة صوت، تنسرب من فرجاتها.. أنظر إلى السماء الملبدة بالغيوم بحثاً عن بصيص ضياء يصدر عن نجم تائه بين السحب. الهواء يلفح وجهي.. حبات المطر الكبيرة تتساقط فوق رأسي. هذا دكان أبو العبد الرملاوي.. في الداخل كل الأشياء والحاجيات نائمة الآن.. السكاكر.. علب اللحمة والسردين.. رائحة العطارة.. هذا دكان أحمد الحلاق، يغرق في صمت لا يعرف مثله إبان النهار.. كأنه يدعوني للاحتماء به، فنحن متعارفان.. منزل خالتي نعمة، يطل النور من وراء النافذة، لعلها تعدُّ العشاء لفوزي وفتحي وفاطمة وبقية البنات. إنهم ينعمون بالدفء الآن. الأسفلت الوحيد في قريتنا يلمع تحت المطر و وميض البرق الخاطف.. هنا تماماً سقط أبي في ذلك الصباح الأسود. أصرخ.. أنكب عليه باكياً.. الناس يتجمعون.. الموكب الثائر.. توشك الدموع أن تطفر من عيني.. لو كان حياً لما تجرأ سعيد على تأخره حتى هذا الوقت. وما كنت لأخرج الآن للبحث عنه.. .
لاحت الجميزة عن كثب. كتلة فاحمة تربض في الأفق، تملأ ما بين السماء والأرض. أخذ خوفي ينحسر بعض الشيء، إذ أصبحت على مقربة من محل (أبو درويش). لكنه مغلق. مقهى أبو داود المجاور، وحده يشع منه الضوء وصوت الراديو.
دلفت إلى الداخل. مسحت المكان بنظرة سريعة. ذاك أخي سعيد، مع آخرين، بالقرب من جهاز الراديوالضخم، ينصتون باهتمام واضح. وكأنما أزعجتهم حركتي المفاجئة حين اصطفق الباب لدى دخولي، إذ انصرف إليَّ شيء من انتباههم. أشارت أكثر من يد تطلب إليَّ الصمت. سعيد وحده أشار إليَّ بالاقتراب. توقفت حيث كنت. أصخت السمع بدوري، لهذا الشيء الذي يستمعون إليه من الراديو، والذي بلغ من أهميته ما جعلهم يلتصقون به التصاقاً حميماً كخلية نحل تحيط بملكتها ..!
".. وإن حكومة صاحب الجلالة تعد شعب فلسطين بمنحه الاستقلال في أقرب فرصة ممكنة بعد انتهاء الحرب مع المحور. وما على هذا الشعب الكريم سوى أن يخلد إلى الهدوء مطمئناً إلى هذا الوعد..."
ساد الوجوم. وأخذ الحضور يتبادلون النظرات، وفي عيونهم تساؤلات حائرة قبل أن ينفضوا من حول المذياع، وتعلو أصواتهم في تعليقات مختلفة. منهم من أصر على أن الانكليز لا يفون بوعد، وتاريخهم مع العرب منذ الحرب العالمية الاولى خير شاهد على ذلك. وعود بلا حصر.. الكتاب الأبيض.. اللجان المختلفة ..ثم لا شيء. وإبان ذلك كله تمضي الهجرة في تدفقها، ويمكنِّون لليهود في الأرض بشتى الوسائل و السبل. إنهم لا يرومون سوى الخديعة وصرفنا عن أهدافنا السامية.. كم شهيداً ذهب من قريتنا وحدها حتى الآن على أيديهم..؟ بل هل كفُّوا عن ملاحقة رجالنا كأسعد الرنتيسي ومحمد طه النجار؟ ألم يحكموا بالإعدام، ذات مرة، على واحد وعشرين مجاهداً دفعة واحدة بتهمة قتل شاويش، لا ندري أهو انكليزي أم يهودي ..!؟
بعض آخر رأى، أن يعطوا فرصة أخرى، فلعلهم يصدقون هذه المرة تحت ضغط الظروف المستجدة. ولن يخسر أحد شيئاً، إذ إن هناك احتمالات شتى مرتقبة أسوؤها لهم هو في صالح العرب. من هذه الاحتمالات أن يمنوا بالهزيمة في الحرب، فنكون قد وفرنا على أنفسنا الكثير من الضحايا والجهود. أما اذا انتصر الحلفاء على المحور، لا سمح الله - قال أحدهم - فقد تصدق بريطانيا هذه في وعدها، وهو ما نأمل، وقد تنكث بعهدها، فنعود عندئذ إلى النضال ونحن أكثر قوة وأفضل عتاداً عن ذي قبل، لثورة طويلة المدى محققة النتائج، في الوقت الذي يكونون فيه قد خرجوا لتوهم من الحرب منهوكي القوى، مثخنين بالجراح، عاجزين من ثم، عن التصدي لثورتنا.
قال واحد من الحضور:
- أرأيتم؟ هذا أول مكسب لهم. هانحن نختلف من أجلهم وبسببهم. وهذه هي سياستهم المعتمدة في كل زمان ومكان "فرق تسد".
غادرنا مقهى (أبو داود) والناس ما زالوا في لغطهم حول ما سمعوا. مضينا نتحسس طريقنا في الظلام، وقد تجمعت مياه المطر فتحول الطريق إلى برك. وفي القنوات المنحدرة من أعالي القرية يتدفق الماء غزيراً، والمطر المنهمر تتبدى خيوطه لامعة ممتدة بين السماء والأرض كلما ومض البرق، مصحوباً بهدير رعود تجوب أرجاء الفضاء.
لم نكد ناوي إلى فراشنا - عقب تناولنا العشاء - في تلك الليلة العاصفة حتى طرقت أسماعنا أصوات طلقات من الرصاص، آتية من الناحية الشرقية. لم نأبه لذلك كثيراً، فقد توقفت الثورة، أو كادت، في الفترة الأخيرة. إلا أننا فوجئنا غداة اليوم التالي حين علمنا أن رصاصات الأمس تمخضت عن حدث هام، سرعان ما أفضى إلى تطورات، نجم عنها انقسام أهل القرية إلى فريقين متنابذين فيما بعد، ولأمد غير قصير.
حفلت ساحة القرية بعدد وفير من رجال البوليس، لا سيما الخيَّالة (الصواري) ببزاتهم الزرقاء، تزين صدورهم لوحات صغيرة تحمل أرقاماً معدنية لامعة، تسهم في إضفاء غير قليل من المهابة عليهم. ضباط عرب وانكليز يتحركون في نشاط دائب، تحت وابل من المطر. ترشق سنابك جيادهم الماء المتجمع في الحفر والمنخفضات، وتثير بجلبتها جواً من الرهبة، فيما اتخذ بعضهم من دار المختار مقراً لعمليات الاستجواب.
(محمد يوسف أبو سالم) كان المستهدف بتلك الرصاصات التي أطلقت عليه في جوف الليل، فيما هو عائد إلى منزله مع عدد من رفاقه وحراسه. كان الرجل محسوباً على الانكليز إبان الثورة.ومن ثم فقد دأب هؤلاء على إحاطته برعايتهم، وحمايتهم أيضاً. فأمام بيته وضع حرس خاص. وعلى سور ذلك البيت، الواسع الأرجاء، نصبت أضواء كشافة تمسح ما حوله، طوال الليل، اتقاء هجوم مباغت.وبات الرجل ذا نفوذ كبير لدى السلطات، وصاحب الكلمة الاولى، التي تتجاوز مخاتير القرية ووجهائها جميعاً. حتى إن من كانت له قضية مع تلك السلطات، ما عليه سوى أن يتوجه بها إلى محمد اليوسف- هكذا أصبح يعرف اختصاراً - وهو عندئذ كفيل بحلها على خير وجه. ولم يكن الثمن الذي يتقاضاه لقاء خدماته مالاً بأي حال، وإنما ولاء له، أو وجاهة يعزز بهما مكانته.
كان يمر من أمام بيتنا أحياناً. قصير القامة، ممتلئ الجسم، يرتدي بنطالاً من نوع "البريتشز" الانكليزي، منتفخاً عند الفخذين، ضيقاً عند الركبة وحول الساقين، داخل جزمة حمراء ذات أزرار نحاسية، وسترة عسكرية، بجيوب بارزة عند الصدر. وعلى رأسه كوفية وعقال، يطفح وجهه عافية وحيوية. عيناه واسعتان حادتان. في فكه الأعلى سنَّان ذهبيتان. له شاربان كثيفان معقوفان إلى أعلى. يبدو في مظهره عموماً، كطاووس يزهو بريشه، ولكنه، مع ذلك، يدفع بالمرء إلى تهيُّبه وخشيته.
قيل إن خصومته مع عائلة النجار ترجع إلى سبب وطني. ففيما كان هؤلاء ثواراً مقاتلين كان هو في جانب أعداء الثورة. وقيل إنها قضية شخصية، بينه وبين محمد طه النجار. وأن الرجلين كانا في وقت من الاوقات صديقين حميمين، إلى أن تزوج الأخير من مطلقة الاول، مما أوغر صدر هذا عليه. لا سيما وأن ما حدث قد أكد ما كان يشاع عن علاقة كانت قائمة بين المرأة ومحمد طه النجار قبل الطلاق. بلغ الأمر بمحمد اليوسف أن انضوى تحت لواء معارضي الثورة بزعامة (النشاشيبي) انتقاماً منه، وابتغاء الايقاع به إذا ما سنحت الفرصة لذلك. من هنا توجهت للفور أصابع الاتهام إلى عائلة النجار، وعاد البحث من جديد، ودون هوادة عن عميدها محمد طه.
لم يمت محمد اليوسف إثر إصابته، فالرصاصات لم تصب منه مقتلاً، وإنما استقرت في أمعائه. وهو الآن يرقد في مستشفى حكومي بمدينة الرملة، حيث تجري له عملية تترتب على آثارها نتائج جمة فيما يتعلق بالعائلتين المتخاصمتين، ومن ورائهما القرية بأسرها.
ما حدث لم يكن غريباً البتة، فالثورة في عاميها الأخيرين - حسب ما فهمنا من أهلنا ومن حولنا إذَّاك - كرست غير قليل من جهدها في تصفية مناوئيها. الشبهة - وحدها - كانت كافية لأصدار حكم بالموت. مما أدى، في حالات غير نادرة ،إلى وقوع ضحايا بريئة لم تكن تستحق ما حدث لها.
خشي الناس أن يتطور ما حدث إلى نزاع دموي، يشمل سائر أهل القرية. فلقد كان سائداً بينهم أن بعض عائلات "يبنا" من أصل مصري، وفدوا إليها مع حملة ابراهيم باشا، ومنهم من جاء قبل ذلك او بعده، بحكم الجوار بين مصر وفلسطين. وقد أطلق على هؤلاء دوماً(المصريون). أما أبناء البلاد فقد عرفوا بـ(الفلاحين). كانت عائلة النجار من المصريين وعائلة أبو سالم من الفلاحين. والسلطات البريطانية، عززت هذا التصنيف. ولعلها كانت، بالتالي، أكثر الأطراف سعادة بما جرى، وإن هي تظاهرت بغير ذلك، ذراً للرماد في العيون. إذ كان هذا هو التطبيق الأمثل أيضاً لسياستها "فرق تسد" التي عكفت على اتباعها منذ وطئت أقدامها أرض هذه البلاد.
تم استجواب عديدٍ من الناس، في ديوان المختار، على مدى أيام أربعة، دون أن يسفر التحقيق عن تحديد هوية الفاعل. كما جرى تفتيش عدد من المنازل، ولكن بطريقة مختلفة، هذه المرة. فيما مضى كانوا يتلفون كل شيء تقع عليه أيديهم: يمزقون الأثاث بحرابهم. يدلقون الزيت على الطحين، والملح على السكر. يحطمون الاواني، يهشِّمون الزجاج والنوافذ .لكأن مهمتهم تنحصر في إيقاع أكبر قدر ممكن من الأذى باولئك التعساء. هذه المرة كانوا على قدر، غير مألوف، من الدماثة والتهذيب. فهم لا يدخلون بيتاً إلا بإذن قاطنيه، وبرفقتهم المختار. إذا رفعوا شيئاً أعادوه إلى مكانه بحرص واضح. كل ذلك مشفوعاً بعبارات الأسف والإلحاح في طلب المعذرة.. حتى تساءل الكثيرون.. يا إلهي متى كان هؤلاء كذلك..؟ ومن أيِّ سماء هبطت عليهم هذه الطيبة..؟
لم يلبث الأمر طويلاً حتى تبين أن خطر الموت قد انحسر عن محمد اليوسف، وذلك بعد أن استؤصلت الأجزاء المصابة من أمعائه .وإن يكن ذلك الخطر لما يزل ماثلاً في محاولات أخرى لاغتياله، قد تقع في أية لحظة عقب عودته المرتقبة. حزن أناس، وابتهج آخرون. الذين حزنوا ودُّوا لو قضى الرجل نحبه، جزاء وفاقاً لما فرطت يداه في حق أهله، والذين ابتهجوا إنما استبشروا خيراً بزوال سبب هام من أسباب الفتنة، في وقت هم فيه أحوج إلى التآزر ضد عدوهم المشترك.
ومهما يكن من أمر فقد لبث الجميع زمناً، ولا حديث لهم سوى أسطورة محمد اليوسف الذي نجا من الموت - بعد أن مزق الرصاص أحشاءه - لا لشيء إلا لأن (عمر الشقي بقي) ولأن الرجل يملك سبعة أرواح، إن لم يكن أكثر...!
ابتهاجاً بنجاته أقيمت الأفراح، وشعت أضواء الكشافات حول دارة محمد اليوسف. وانطلق الرصاص من البنادق (متراليوز) الذي كان قائماً على أسوار الدار. فيما شاركت قوة من رجال البوليس في الحراسة طيلة أيام الاحتفال السبعة. ما انفك الحاكي ذو البوق الضخم عندهم يصدح مالئاً أجواء القرية بأغاني (أمير الطرب) فريد الأطرش.. يا ريتني طير لأطير حواليك / مطرح ماتروح عيوني عليك وأسمهان رجعت لك يا حبيبي./ من بعد طول الغياب. (مطرب الملوك) محمد عبد الوهاب.. هليِّت يا ربيع هل هلالك.. متّعت الدنيا بجمالك و(كوكب الشرق) ..افرح يا قلبي.. لك نصيب.. تبلغ مناك ويَّا الحبيب أما في الجانب الآخر من القرية فقد ساد الوجوم القلق والصمت المغلف بالأسى والألم. | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:10 | |
| - 14 -
ترك سعيد العمل عند الحلواني. ولما تعذر توفير عمل آخر له، لم تجد والدتي مناصاً من موافقته على فكرة بدأها من أجل تحقيق دخل يسهم في الإنفاق على الأسرة، التي راحت متطلباتها تتزايد يوماً بعد يوم، وذلك بأن يمارس (عملاً حراً)، كيفما اتفق، وحسب الظروف المتاحة لمثله.كان أول عمل قام به هو إنشاء "بسطة" لبيع الفلافل، فاتخذ من الزاوية الخلاء الملاصقة لبيت خالتنا (نعمة) مكاناً مختاراً لممارسة مهنته الجديدة. وفي أيام الثلاثاء ينتقل إلى السوق نفسه ببسطته، قريباً من الجميزة. لأن يوم الثلاثاء هو يوم سوق القرية وما جاورها من القرى .
يوم (الافتتاح) كان يوماً مشهوداً. فقد أخذنا نصفُّ الاواني الجديدة : موقد(بريموس).. مقلاة ..صحون.. تنكة زيت. ونرفع عقيرتنا بالنداء معلنين عن بضاعتنا الفاخرة. وقد تطوع عدد من رفاقي في المدرسة، فضلاً عن رفاق أخي، للمساعدة في هذا العمل الجليل. وكم كانت فرحتي غامرة حين أسند إليَّ، منذ أول يوم، مهمة إعداد الأقراص للقلي، أو لفها بورق الجرائد القديمة للمشترين، مما أغراني القيام بمعاونته عصر كل يوم، عقب انصرافي من المدرسة.
منظر مبهج حقاً أن ترقب الأقراص وهي تقذف في المقلى، فيفور الزيت مشكلاً فقاعات تطفو على السطح. تسمع نشيشها، وتنطلق رائحتها تعبق الجو بنكهة التوابل الشهية، مما يسيل لعاب المارة، ويدفعهم من ثم، للأقبال على الشراء بحمية ورغبة واضحتين.
ذات مساء، وفيما كان العمل قائماً على قدم وساق، والزبائن يكتظون من حولنا، انقلب المقلى بمحتوياته جميعاً، دفعة واحدة. تناثرت الأقراص في كل اتجاه، واندلق الزيت على ثيابي ويدي. صرخت..أعولت.. بكيت.. قامت جلبة في المكان. أبدى المتجمهرون أسفهم، كما عبروا عن تعاطفهم بالدعوات والتوجيهات الملائمة:
- يا ساتر يا رب.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. احترقت يد المسكين..
ثم ما لبثت أن انهالت النصائح والاقتراحات العديدة حول كيفية معالجة الموقف. نصح أحدهم بكسر عدد من بيض الدجاج، وصب محتوياته فوق مكان الحرق. واقترحت عجوز استخدام زيت الكاز، فذلك هو العلاج الأمثل للحروق. وامرأة شابة أرتأت أن تغمس يدي في ماء الملح، مؤكدة أن ابنها لم يكتب له الشفاء إلا بهذه الوسيلة. هذا فيما أنا اواصل البكاء، دون أن يخفف ذلك شيئاً من آلامي المبرحة. يبدو أنهم عمدوا، آخر الأمر، للأخذ بكل الاقتراحات المطروحة معاً، ضماناً للشفاء وإيثاراً للسلامة. فلقد صب أحدهم الكاز على يدي من حنفية (البريموس)، فطار صوابي، وأخذت أقفز في مكاني. وجاء آخر ببيضتين، كسرهما على يدي، أما سعيد فقد عمد- بناء على توصية وردت أخيراً - إلى أقراص من (زهرة الغسيل) الزرقاء، حلَّها بالماء ثم دلقها فوق الحرق. إبان ذلك كان الخلاف محتدماً بينهم، إذ لم يكن هناك إجماع على صحة ما كانوا يفعلون، أو على وحدة في الرأي حول صواب التدابير التي اتخذوها..!
ما إن رأتناوالدتي، ونحن ندلف إلى المنزل، حتى أصابها الفزع. امتقع لونها، فأقبلت مهرولة نحونا، صائحة:
- مالك يمه ..؟ مال أخوك يا سعيد ..؟
- لا شيء.. لا شيء. حرق بسيط ..!
صاحت :
- حرق تقول أيها اللعين ..؟ كيف ..؟ قل لي ماذا جرى للولد ..؟
- اندلق الزيت على يده..
- وما الذي دلق الزيت على يده؟ آه أيها المنكوب ..!
- ولكن ماذا صنعت أنا ؟
- ماذا صنعت؟ وماذا كنت تريد أن تصنع أكثر من ذلك ..؟ ألست أنت سبب مصائبنا كلها؟ هذا ما كان ينقصنا ..(منين لك هم الله يبعت لك ..) ..(يا نيال من بات بهُّمه القديم..)
توافدت الجارات.. غصَّ البيت بالأقارب والجيران في الأيام التي تلت لدرجة أشعرتني بأهميتي الفائقة، مما خفف عني شيئاً من تلك الآلام المبرحة. لا سيما حين جاءت أم مريم تصحبها ابنتها التي بدا عليها التأثر أكثر من غيرها. تلك دموع في عينيها، ولكنها لا تجرؤ على التفوه بكلمة في حضور والدتها. تضاعف سروري عندما غدت تأتي كل صباح، تحمل وعاء مملوءاً بالحليب الطازج، إذ كانوا يملكون قطيعاً من الأغنام، وعدداً من الأبقار الحلوب.
مكثت في البيت أسبوعاً كاملاً أتاح لي أن ألمس عن كثب مقدار ما تعانيه والدتي في تنشئتنا. لم يكن ذلك خافياً علينا، على أية حال، بيد أنني أصبحت أشهد التفاصيل اليومية الصغيرة التي تمر بها، والتي تشكل في مجموعها عبئاً تنوء بحمله خمس نساء. تكنس باحة الدار المتربة ...تعجن، تمسح أرضية الغرف والمصطبة.. تقطف أوراق الملوخية ثم تفرمها. تطهو.. تغسل الثياب. ثم هي فضلاً عن كل ذلك تطعم الدجاج، وتراقب الأرانب التي كانت تربيها ،كيما توفر لنا مادة غذائية من إنتاج منزلي.! في محاولة منها لتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي. حتى الخبز في (الطأبون) تصنعه في البيت. كما كانت تزرع الرقعة الصغيرة من الأرض (الحاكورة) المجاورة لبيت عدلة الشامية بالبقدونس والنعناع وشتلات من الفلفل والبندورة. علياء إبان ذلك تلعب او تبكي. ألاعبها، تثورأحياناً ،ولا تجدي كل محاولاتي لإسكاتها. ولكن ثورتها محببة. تنهمر دموعها مدراراً، وفي اللحظة ذاتها تقرقر الضحكة في حلقها. تريد شيئاً باستمرار ... أن يخرج بها أحد إلى الزقاق، أن تقبض على عنق دجاجة، أن تتناول بيضة خرجت لتوها إلى النور، لا تلبث أن تكسرها فوق ثيابها.. تطلب طعاماً.. لا يعجبها.. تسأل عن أبيها. وهنا يأتيها الجواب المعتاد:
" مسافر يا حبيبتي ..!
لم تعد تصدق.. تستأنف البكاء ملحة في طلبه. باتت الدموع لا تسعف والدتي كثيراً. وجهها يفصح عن ألم دفين لا حدود له وهي تهدهد علياء، ثم تمضي في متابعة أعمالها العديدة في وجوم لا يفارقها معظم الوقت. الشعور باليتم لا يضاهيه شعور آخر. نحن نحظى بعطف الآخرين، ولكن هذا في حد ذاته مدعاة لمزيد من آلامنا، إذ هو تأكيد على أن وضعنا ليس عادياً، وأننا موضع عطف. لكأني أعيش في فراغ أجوف. معلق في الفضاء، لا أرض تحت قدمي. أفتقد شيئاً استند إليه تماماً كن يقف على قدم واحدة كل الوقت موشكاً أن يسقط في أية لحظة..!
أخذتني والدتي إلى المستوصف الذي يؤمه طبيب يهودي، يدعى(إسحاق) مرتين في الأسبوع. كان يعالج كافة الأمراض و الإصابات. بدءاً من الإسعافات الاولية، كما حدث لي، حتى الملاريا التي كانت تصيب الكثيرين، مروراً بالرمد الربيعي، والأمراض الجلدية والتيفوئيد والسل الرئوي...! وما أن لحقني الدور حتى كان موعد إغلاق المستوصف قد أزف. و(الخواجة) لا يتأخر عن موعد انصرافه لأي سبب. لكن إلحاف والدتي في الرجاء دفعه، كارهاً، للموافقة على معاينتي. فك الرباط.. مسح يدي بدواء أحسست حرقته تسري في كل أنحاء جسدي. ثم رشَّ مسحوقاً وربط يدي بلفافة من الشاش، فيما هو يستفسر - ولكن بغير اكتراث - عن سبب الحرق، مندداً بالطريقة التي عولجت بها، والتي تنم عن تخلف في الوعي الطبي شديد، مستخدماً العربية بلكنة مكسرة. مردداً باستمراركلمة " يا خبيبي .."
أحملق فيه غير مصدق وجوده في قريتنا. أهذا الدكتور يهودي ..؟ أهو من اولئك الذين يقولون عنهم بأنهم أتوا لكي يستوطنوا بلادنا..؟ كان بديناً، مكتنز الجسم. له ذقنان، السفلى منهما تمتد من الصدغ حتى الصدغ الآخر. ضخم الأنف محدود به.. حليق الذقن والشاربين. أبيض اللون. يضع على عينيه نظارات مذهبة، زجاجها داكن - تمنيت لو أمتلك واحدة مثلها - لم يبق من شعره إلا القليل على جانبي رأسه، وقريباً من أذنيه. أخرجني من استغراقي في التفرس بوجهه الغريب، حين ربت على ظهري قائلاً:
.. يا لله يا شاطر.. مع السلامة.. الأسبوع الجاي، مثل اليوم أشوفك ..!
لم تنقطع زيارات رفاقي، وعلى رأسهم نعيم الذي أخبرني أنه قد تقرر نقل مدير مدرستنا الأستاذ عبد الخالق، وأن المدير الجديد سوف يصل هذين اليومين. كان ذلك مدعاة للدهشة. ذلك أن النقل لا يتم عادة في مثل هذا الوقت من العام الدراسي. ولكن ماذا في وسعنا أن نصنع نحن الذين ليس بيدنا من الأمر شيء..؟
تابع أخي سعيد عمله الجديد، على الرغم من اعتراض والدتي، خشية عليه هو أيضاً، وازداد إقبال الزبائن عليه، وبالتالي تحسن إيراده منه .كما تحسن سلوكه إلى حد ما، فأصبح يعطي والدتنا الفائض من دخله، و لا يدخل المنزل إلا وهو يحمل معه فواكه او طعاماً.. عنب.. تفاح.. علب(بولبيف) أو(طون سردين).. وكم كانت فرحتي ذات صباح حين فتح (الشيخ محمد) باب غرفة الصف للطارق، لأرى سعيد (بشرواله) الأبيض وطاقيته البيضاء عند الباب. تحدث إلى الأستاذ الذي ناداني لكي يناولني سعيد دفاتر وأقلاماً ملونة كثيرة ومسطرة وممحاة وزجاجة حبر. ثم أومأ لي مبتسماً وهو ينصرف. غمرني مزيج من الفرحة والحنو، والأحساس بأنه أخي، بل أبي.. حتى اوشكت أن تطفر من عيني الدموع .
أغلق الشيخ محمد الباب، ومضى يهز رأسه يميناً ويساراً فيما هو يعود إلى الطاولة بقامته النحيلة ورأسه المكشوف، فبدا أكثر طولاً ولكن أقل هيبة و وقاراً مما كان عليه اول دخوله غرفة الصف. وقبل أن يضع عمامته على الطاولة، ويعلق جبته السوداء على مشجب في الزاوية الواقعة ما بين الباب والسبورة. طلب إلينا مواصلة كتابة درس الانشاء ليواصل هو قراءة الجريدة التي في يده . | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الأربعاء 26 أغسطس 2009, 14:11 | |
| - 15 -
غداة ذلك اليوم انتظمنا صفوفاً في باحة المدرسة. بعد أن قرع الجرس، وقمنا بالحركات الرياضية المألوفة. لبثنا صامتين في انتظار الإيعاز لنا بالتحرك إلى الصفوف. تحيط بنا أزهار الحديقة وأشجار السرو والصنوبر على امتداد السياج تعصف بها رياح آذار. والرمل المبلل تحت أقدامنا إثر أمطار هطلت في الليلة الماضية. وسحب متقطعة تعبر السماء متجهة نحو المشرق، وعصافير الدوري تتقافز هنا وهناك فوق الأشجار والأزهار، وبين عشب الحديقة الأخضر، طال وقوفنا، هذه المرة، أكثر من المعتاد .
ها هم الأساتذة يخرجون أخيراً، من غرفة الأدارة، يتقدمهم الأستاذ عبد الخالق. صعد عتبة الباب المرتفعة قليلاً عن سائر الفناء. فيما وقف الآخرون - بمن فيهم المدير الجديد.. قريباً منه.
بدا الرجل مكغهر الوجه، تلتمع عيناه ببريق حزين. أطرق قليلاً، قبل أن يتوجه إلينا بكلمته التي كان فحواها أنه شديد الأسف لفراقنا الذي لم يكن منتظراً في هذا الوقت. وهو إذ يفعل، على غير رضى منه، فإنه يخلِّف وراءه قلبه وروحه. غير أنه مطمئن لمستقبلنا إذ يتركنا بين أيد أمينة مخلصة، في مقدمتها الأستاذ شاكر - المدير الجديد - الذي لا ريب أننا سوف نجد فيه الأب قبل المعلم. كما أننا بدورنا، وبغير جدال سوف نكون الأبناء البررة المجدين ...أوَ لسنا عماد هذه الأمة، الذين عليهم تبنى آمالها في غدٍ باهر، ومستقبل زاهر...؟ نظر بعضنا إلى بعض خلسة، وكأننا نتساءل عما إذا كنا كذلك حقاً دون أن ندري..! ولماذا يخفون عنا هذه الحقيقة الجميلة ولا يصرحون بها إلا في مثل هذه المناسبة ..؟ ولولا انتقال الأستاذ عبد الخالق لما أتيح لنا الاطلاع على آرائهم السارة هذه فينا ..!
تنحى عن مكانه، مفسحاً للمدير الجديد، الذي داخلتنا الرهبة لمرآه منذ الوهلة الاولى. ربع القامة. شديد حمرة الوجه.. كالانكليز.. عيناه زرقاوان. يبدو تماماً كانكليزي مستعرب، يرتدي كوفية وعقالاً من قبيل المحاكاة لأهل البلاد، كما كان يفعل بعضهم. مهيب الطلعة، بادي الحضور بشخصيته الطاغية.
ساد صمت مشوب بغير قليل من الحذر، قبل أن يبدأ الرجل حديثه بصوت حاد النبرات ينم عن عصبية واضحة. أعلن هو الآخر عن أسفه إذ يرى مدى تاثرنا لرحيل (سلفه الصالح). أكد لنا أنه لن يألو جهداً في أن يكون الأب البديل، وأنه سوف يسير على خطا السلف. كما أنه لن يدخر وسعاً في أن يمنحنا فكره وعقله، ليصنع منا (رجال المستقبل) القادرين على خدمة الوطن، الذي يمر اليوم بظروف هي أخطر ما مر به حتى الآن، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الاولى وانحسار الاستعمار العثماني عنها. فهو يتعرض الآن لغزوة تضافرت فيها قوى الاستعمار والصهيونية.. بريطانيا والوكالة اليهودية. وأن الثورة التي توقفت منذ أمد قصير، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، ولتدخل الزعماء العرب، سوف تعود من جديد، في الوقت المناسب إذا نكل الانكليز بوعودهم ثانية وهم أغلب الظن سيفعلون.
صمت الأستاذ شاكر قليلاً. أخذ يجفف عرقة بمنديل أبيض قبل أن ينبئنا بأن له ابنة سوف تكون معنا - في صفنا الخامس بالذات - لأن مدرستنا لا تضم بين جوانبها صفوفاً للبنات، موصياً إيانا بها خيراً، إذ هي بمثابة شقيقة لكل واحد منا، ثم نادى وهو يلتفت نحو غرفة الادارة :
-.. مي.. تعالي يا مي..
أطلت مي.. رائعة الجمال.. جاءت تقفز عدواً، فيما شعرها يتماوج حول عنقها وكتفيها، إلى أن بلغت مكان أبيها. وقفت إلى جواره. وضع راحة يده على كتفها. قال في زهو من يعرض جوهرة نفيسة يعرف قيمتها بحق:
- هذه مي ابنتي..
كوالدها، شقراء، زرقاء العينين، شعرها كشلال من خيوط الشمس الذهبية. ترتدي ثوباً بلون أوراق البرتقال. تناهز الحادية عشرة. تبدو شديدة الثقة بنفسها، والاعتداد بجمالها. لكن وجهها تضرج حمرة إذ وقفت أمام هذا العدد الكبير من التلاميذ وأساتذتهم. هذا فضلاً عن حشد من الفضوليين من أهل القرية، تجمعوا خلف السياج الخارجي. أخرجنا من دهشتنا وبهجتنا معاً - إذ كنا قد استغرقنا الموقف فأنسانا أنفسنا - قول الأستاذ شاكر بصوت انخفضت نبراته:
- والآن هلموا إلى صفوفكم يا أبنائي. ولا تنسوا اننا نقترب من الامتحان الذي يكرم المرء عنده، أو يهان..!
لبثنا بعض الوقت قبل أن يدلف الشيخ محمد إلى غرفة الصف، فكانت فرصة لتساؤلات عدد منا حول أسباب نقل الأستاذ عبد الخالق في مثل هذا الوقت من العام، فيما انهمك عدد آخر في الحديث عن ابنة المدير التي بهرتنا في كل شيء. منَّينا أنفسنا بسعادة غامرة، غداً حين تكون بيننا. وبات كل منا أيضاً يمني نفسه بأن يكون نصيبه جلوسها إلى جانبه، حتى كدنا أن نتشاجر بسببها ..!
كما أخذ يطل هذا وذاك من النوافذ بحثاً عنها في الباحة، فهي لم تأت إلى الصف بعد، فيما كنا نحسب انها ستدخله معنا للتو. كانت تتناهى إلى أسماعنا، في هذه الأثناء، أصوات راديو، أو (الحاكي) من مقهى أو دكان في السوق القريبة يردد:
" ياللي زرعتوا البرتقال.. يا لله اجمعوه آن الاوان".. الأغنية التي حوَّر الناس كلماتها طبقاً للظروف المستجدة إلى.. "يالله (اقلعوه) آن الاوان"، مع ما كان يرافق قولهم هذا من أسى ومرارة. بياراتهم العزيزة على قلوبهم.. يقطعون أشجارها وكأنما يقطعون أوردة دمائهم. ولكن ما حيلتهم، فالحكومة ضيقت عليهم سبل تصديره، واضطر الكثير منهم للاستدانة من البنوك بفوائد فادحة، مقابل رهونات بشروط مجحفة، كي يتمكنوا من الإنفاق على بياراتهم .متجاوزين تحذيرات الشيخ علي العطار، والشيخ محمد أبو العينين من عواقب ذلك دنيا وآخرة.." الفوائد ربا.. والربا حرام أيها الناس.. " يمحق الله آكله.." فيرد هؤلاء بأنهم لن يأكلوه.. لكنهم مضطرون إليه لانقاذ أشجارهم..وهم يدفعون أي يغرمون ..(وإذا كانت البيارات عبئاً علينا اليوم فإنها لن تلبث أن تعود علينا بالنفع والخير العميم في المستقبل، كما كانت فيما مضى..) وفيما بينهم يقولون مامعناه :
(من كانت يده في الماء ليس كمن يده يده في النار)..!
ويبتهجون بل يستبشرون خيراً حين تدغدغ أسماعهم وتمس شغاف قلوبهم أغنية محمد عبد الوهاب الجديدة.." ما احلاها عيشة الفلاح.. مطمئِّن قلبه مرتاح " فتثير فيهم أحاسيس من الشجن والحنين إلى الأرض والزرع والشجر والندى.. مع ذلك يتساءلون ضاحكين: كيف يكون قلب الفلاح مرتاحاً مع الديون والكساد.. ولا يمنعهم هذا من ترديدها في البيارات والحقول..!
كنا ندرك ذلك ربما بحدسنا وأحاسيسنا، نحن الصغار، أو بما كان يترامى إلى اسماعنا خلال أحاديثهم في البيوت، أو على المصاطب في العصاري، وما بين المغرب والعشاء. قلق عام ينتابهم، وهموم شاملة مقيمة، تبدو على الوجوه الواجمة، وفي العيون الذابلة، والضحكات الفاترة. لكنهم يعودون للتفاؤل، على الرغم من كل شيء، وتترقرق في عيونهم الدموع وهم يتمتمون، محدثين أرضهم .." مين زيك عندي يا خضرة.. في الرقة يا غصن البان.. ما تجودي عليَّ بنظرة وأنا رايح عالميدان..".
دخل الشيخ محمد، فكف الصخب، وانقطع سيل الخواطر والتمنيات، وتقافز التلاميذ سراعاً إلى مقاعدهم. حين ساد الصمت نظر إلينا، وفي عينيه، وتقطيبة جبينه مزيج من الحنق والعطف، ثم قال : لا فائدة منكم، شياطين ..(غاب القط العب يا فار) أيها الملاعين..! تنتظرون الفتاة مي.. أليس كذلك ..؟
- 16 -
كان مجيء (مي) إلى صفنا مدعاة لتغيرات جذرية في أوضاعه، بل إلى انقلاب شامل في نظامه وعلاقات أفراده. اسماعيل العطار يتودد إليها. سليمان أبو سليمان يسعى لأن يكون الأثير لديها. نعيم أبو جلاله يحاول أن يقدم لها خدماته المجانية، يحمل عنها حقيبة كتبها.. يعرض أن يبري لها قلم الرصاص.. يسعى لأن يهديها كراساً، أو مسطرة ..! كنا جميعاً ننظر إليها وكأنها صنعت من مادة أخرى غير تلك الطينة التي جبلنا نحن منها. كما أصبحنا أكثر تأدباً وأشد تهذيباً في سلوكنا وحديثنا. كل يبتغي رضاها، المتمثل في ابتسامة او نظرة استحسان تبعث السعادة في نفس من تمنحه إياها سحابة نهاره كله.. وربما امتدت آثارها إلى أحلامه في منامه ..!
لم يكن أثر الأستاذ شاكر بأقل من أثر ابنته في التغيرات الطارئة، وإن يكن على صعيد مختلف. لقد بعث الرجل في القرية الساكنة حركة ونشاطاً لم نعهدهما منذ زمن. كان يبغي تغيير كل شيء دفعة واحدة :.. عائلتا (النجار) و (أبو سالم) لا بد أن يتم الصلح بينهما.. المدرسة يجب أن ينشأ فيها صف سادس للعام المقبل، وسابع للذي يليه، على أن يتكفل أثرياء القرية بتأمين المال اللازم، الذي لن تقدمه لهم حكومة الانتداب بأية حال..
..ضرورة الاشتراك في الألعاب الرياضية الموسمية، التي تقام في مدينة الرملة، مركز القضاء. فضلاً عن إنشاء فريق لكرة القدم ..
.. الزراعة لا بد من تطويرها. وذلك باستخدام الآلات الحديثة والمبيدات الحشرية، بدلاً من الاعتماد على الدواب والوسائل البدائية .. البيارات أيضاً. وتصريف برتقالها.. لا بد لها من حل.
.. إيصال الماء إلى كل البيوت.. والكهرباء أيضا.. مركز للبريد.. تعبيد الطرقات العامة.. بل والأزقة الفرعية ..
القرية تفتقر لكل ذلك، وقد ألفت وضعها هذا حتى أنها لا تفكر في أن شيئاً ينقصها.
حيوية الأستاذ شاكر من نوع مبهر للغاية، أيقظت فيهم الأحساس بهذا الذي ينقصهم والرغبة في الحصول عليه. وقد اثار هذا حوله لغطاً شديداً، وفضولاً متزايداً. انقسم الناس إزاءه بين معجب بآرائه، ومناهض لها لا يرى فيها إلا تطرفاً غير محمود العاقبة على كل صعيد. بل إن العديد من كبراء القرية رأى فيه خطراً يتهدد مصالحهم، ومراكزهم.
فضلاً عن هذا كان الرجل مناوئاً للانكليز والحلفاء. مؤيداً شديد الحماسة للألمان، لا لشيء إلا لأن هؤلاء خصوم للانكليز. من ثم كان يقضي جل وقته في الاستماع إلى آخر الأنباء عن الحرب القائمة. ثم يأتي لينقلها إلى الأساتذة، مسهباً في تعداد الإنجازات التي تحققت للألمان في معاركهم على الجبهة البولندية.. الفرنسية.. البلجيكية.. ومدى الخسائر التي لحقت بالحلفاء، والانكليز بصورة خاصة..! مضيفاً من لدنه، ما يتفق وأمانيه ورغباته من أرقام و وقائع معظمها من صنع خياله وحده. ناهيك عن توقعاته للاحتمالات المنتظرة، والتي لا شك أن خسارة الانكليز وهزيمتهم فيها محققة وثابتة ثبوت سنن الكون التي لن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً ..! حتى نحن أيضاًلم يعفنا الأستاذ شاكر من تعليقاته عن الحرب، ونتائجها الحتمية التي سوف تجعل من هذا الكوكب - عقب انتهائها - جنة تشبه ذلك الفردوس الذي وعد به المتقون..!
أشرف العام الدراسي على الانتهاء. ولم ينجز الأستاذ شاكر شيئاً مما عرض من آراء ومشروعات، بسبب تلكؤ أهل القرية من جهة، ولقصر الوقت المتبقي من ذلك العام، من جهة ثانية.
حل موعد الامتحانات النهائية. ظهرت النتائج بعد أيام. جرى احتفال مقتضب لتسليم شهادات الانتقال .
ثم مضى الأستاذ شاكر وأسرته الصغيرة في إجازته الصيفية. وعندئذ رحنا نضرع إلى الله بقلوب مفعمة بالرجاء أن يعيده إلينا سالماً - ومن معه - في العام المقبل. كما غدونا ننتظر، بعد ذلك، او بته بصبر فارغ وبشوق يبزُّ شوقنا لأي (مدير) مضى من قبل ..!
كان صيفاً حافلاً. رفضت والدتي أن أعمل مع أخي سعيد "فما في كل مرة تسلم الجرة .." وأنا من جانبي لم أرغب في العودة إلى دكان الحلاق أحمد الجمل. لم يبق إذن سوى العمل في الحصاد او في سقي البيارات لكن هذا أكبر من سني وطاقتي .لهذا جَهِد العم عبد الغني أن يسهِّل عليَّ الأمر قدر استطاعته، فجعلني برفقة عامل يسقي له أرضه. كان يريدني أن "أتعلم". غيرأني تساءلت أين هو العلم والتعلُّم في مثل هذا العمل. يجري الماء في القناة إلى أن يبلغ حفرة حول الشجرة.. ينتظر الرجل امتلاءها، ثم يضع كومة من التراب يجرفها بفأسه كي تسد مدخل الحفرة، فيجري الماء إلى الشجرة التي تليها. أرقب الماء ينساب في القناة، رقيقاً صافياً، فوق الحصى المتلألئ، إلى أن يتدفق حول الشجرة فتطفو الأوراق والأعشاب الجافة، فوق رغوة بيضاء، تفور على سطحه، محدثة خشخشة رهيفة، وحفيفاً هامساً، فيما تفوح رائحة التربة رطبة نفاذة. يفعل الرجل ذلك، فيما هو يصدح حيناً بموال أو عتابا، أو " يا ظريف الطول ما شي الواد الواد.. يا ربي تلطف بينا وبالبلاد..". ويأتي من بيارة قريبة صوت آخر، كأنه يحاوره "على دلعونا على دلعونا.. راحوا الحبايب ما ودعونا .."
ولأن النهار طويل، يزيد من طوله ذلك العمل الواني الرتيب، كان (دياب) لا يدع مطرباً دون أن يردد أغانيه، سليمة او مشوشة.. عبد الوهاب.. "موضة اليوم".. فريد الأطرش.. و شقيقته أسمهان. وأعجب لكثرة ما يحفظ من هذه الأغاني. ويزداد عجبي وإعجابي أكثر حين يحدثني عن أسماء الأفلام التي شاهدها، ورأى فيها هؤلاء المغنين أنفسهم ..!في سينما الحمراء او سينما فاروق بيافا التي كان يزورها مرتين.. بل قل ثلاثاً في كل عام، مما أثار غبطتي وحسدي له. ومنيت نفسي بأن أصنع صنيعه عندما أصبح في مثل سنه..! والدتي..؟ سأقنعها حينئذ..!
لكنه كان عملاً شاقاً، على الرغم من كل شيء، فعدت أدراجي للعمل في دكان الحلاق أحمد الجمل، عملاً بقول والدتي "الرمد أهون من العمى يا بني..." أضع رغوة الصابون على وجه أبو حسين الشرقاوي.. أو أرش الماء أمام الدكان على الأرض التربة، وجزء من الأسفلت عصر كل يوم، عندما تبدأ فتيات القرية غدوهن ورواحهن حاملات جرارهن. إذا كانت مريم بينهن أثار مرآها اضطرابي وازداد وجيب قلبي.. مريم التي بتُّ أعتقد أن أحداً ما يرقبني مندداً او محذراً حين انظر إليها. | |
|
| |
anas dakir نائب المدير نائب رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 148
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الإثنين 31 أغسطس 2009, 12:18 | |
| قصة رائعة | |
|
| |
x-master المديرالعام مراقب المنتديات مشرف المنتديات منشئ الموقع رئيس فرقة العمل
عدد المشاركات : 216
| موضوع: رد: روايات : قبل الرحيل 1 الجمعة 04 سبتمبر 2009, 14:45 | |
| | |
|
| |
| روايات : قبل الرحيل 1 | |
|